الروم أكثر الناس (3)
الحلقة الثانية والسبعون من كتاب
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
جُمَادَى الآخِرَة 1443 هــ / يناير 2022
وفيما يلي بيان مجمل لهذه الخصال التي استحقوا بها أن يكونوا أكثر الناس:
أولًا: أحلم الناس عند فتنة:
إن الفتن كثيرًا ما تطيش بعقول الناس، وتذهب بألبابهم، فإن الإنسان إذا كان في حالة غضب، أو انفعال، أو تعاطف مع موقف معين، فإنه يفقد قدرته على التوازن، وعلى وضع الأمور في نصابها، وعلى دراسة الأشياء دراسة صحيحة، ويصبح عنده شيء من الاضطراب والارتباك في قراراته، وتفكيره، ومن ثَمَّ ينعكس هذا الارتباك على أدائه في ميدان العمل والحياة.
ومن هنا فقد وصف عمرو بن العاص الروم بأنهم أحلم الناس عند فتنة، فإذا جاءت الفتن فإنك تجد عندهم تجاهها صبرًا وحلمًا وأناةً وروية، ولا شك أن في هذا إشارة إلى أن هذا خلق مطلوب ينبغي أن يحرص المسلم على التحلي به؛ لأن هذا المقام مقام مدح لهم، وهذا يدل على أنها خصلة حميدة، والمسلم مطالب بأن يتحلى بأحسن الخصال وأطيبها، وأن يأخذها حتى من أعدائه.
ثانيًا: وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة:
سواء كانت مصيبة خاصة أو عامة، وأنا أرجح أن المقصود هنا: الإصابة العامة، وليست المصيبة هنا مصيبةً بموت زوج أو ولد وما أشبه ذلك، وإن كان هذا ربما يكون متضمنًا، لكن المقصود هو وصف الشعب بأكمله، فهو- إذًا- يتعلق بمصائب عامة.
وفعلًا نجد أن هؤلاء الروم يخرجون- مثلًا- من أتون حرب ضروس ضارية شرسة أكلت الأخضر واليابس، وأتت على كل شيء، ثم مع ذلك يكون لديهم قدرة على الإفاقة السريعة، فسرعان ما يستدركون.
وربما كانت أنظمتهم السياسية تساعد على مثل ذلك؛ فإن النظام عندما يكون مبنيًّا على مؤسسات، ويكون خاضعًا للدراسة؛ فإن الخطأ سرعان ما يُتدارك؛ ولذلك فإن الخطأ لا يطول عندهم، وهذا هو معنى قوله: إفاقة بعد مصيبة. أي: لا يطول الخطأ ويستمر كثيرًا، بل سرعان ما يتم استدراك هذا الخطأ وتصحيحه وتصويبه.
ولعل ما نلاحظه في انتخاباتهم وقراراتهم من استدراكهم للأخطاء التي حصلت، يومئ إيماءً كبيرًا إلى هذا المعنى، أو يكون جزءًا منه.
ثالثًا: وأرحمهم لمسكين ويتيم وضعيف:
وهذه هي الروح الإنسانية التي جاء بها الإسلام، وهي جزء من الرحمة التي بُعث بها محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: حَقَّ الْيَتِيمِ وحَقَّ الْمَرْأَةِ». وكان النبي صلى الله عليه وسلم بخلقه العملي وسلوكه مع الضعفاء والمساكين والأيتام والأرامل كان نموذجًا وقدوة، وجاءت شريعته صلى الله عليه وسلم تؤكد على هذا المعنى، وقد جاء عن جابر رضي الله عنه قال: لما رجعت مهاجرة الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعْجَبَ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟». قال فتية منهم: يا رسول الله، بينما نحن جلوس مرت علينا عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قُلَّة من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه ثم قالت: سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَتْ صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ الله أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟!».
فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المجتمع الذي يملك الضعيف والفقير والمسكين فيه أن يطالب بحقه بلا تردد، ولا خوف، وأن يأخذ حقه بلا نقص، مجتمعات خليقة بالبقاء؛ لأنها تحافظ على المعنى الإنساني الذي جعله الله تعالى ميزة
لبني آدم: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: 26].
فتحافظ على هذا المعنى الإنساني، وبالتالي يكون الإنسان فيها مطمئنًّا، يشعر بالانتماء، وأنه مستفيد من هذه المجتمعات، وبالتالي يكون جزءًا من المحافظة عليها، ويتربى في جو مطمئن آمن بعيد عن الخوف، وعن القلق.
رابعًا: وأوشكهم كرة بعد فرة:
ومعنى ذلك: أنهم إذا انهزموا سرعان ما يستردون قوتهم، ويكرون على عدوهم مرة أخرى.
خامسًا: وخامسة حسنة جميلة: أمنعهم من ظلم الملوك:
أي: أن عندهم امتناعًا من ظلم الملوك، وقد لا يكون امتناعهم امتناعًا شخصيًّا، وإلا فقد يقال: إن العرب كانوا كذلك، فمثلًا: ذلك العربي- وهو قحيط العجلي- الذي أراد ملك أن يأخذ فرسه، فقال له:
أَبَيْتَ اللَّعْنَ إِنَّ سَكابِ عِلْقٌ *** نَفِيـسٌ لا تعـارُ ولا تبــاعُ
مُـفَـدَّاةٌ مُكَـرَّمَـــةٌ عَـلَيْـنـا *** تجاعُ لها العِيالُ ولا تجاعُ
سَلِيلَةُ سابِقَيْـنِ تَنـاجَـلاهـا *** إِذا نسِـبـا يَضمُّهما الكراعُ
فلا تَطْمَعْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ فِيهـا *** ومَنْعُكَها لَشَيْءٌ يُـسْـتَطـاعُ
ولكن المقصود بامتناعهم من ظلم الملوك أن الامتناع يتحقق من خلال جماعتهم، فلديهم من الأعمال والمؤسسات والبرامج ما يجعل جهودهم متضافرة، فيمتنعون بذلك من الظلم، وبالتالي يقوم عندهم من النظم والإدارات ما يحقق مصالحهم، ويحفظهم من الظلم ومن العدوان.
لقد وصف عمرو بن العاص رضي الله عنه الروم بهذه الصفات التي تحدثنا عنها، مدركًا بذكائه وعبقريته السر في هذا المعنى الذي جعله الله تبارك وتعالى قضاءً وقدرًا، وأخبر وباح به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ».
وأخيرًا: ينبغي للمسلم أن يلتقط من هذه المعاني والإيحاءات النبوية، ومن لمحات الداهية الكبير عمرو بن العاص رضي الله عنه معاني كثيرة يتمثلها ويجعلها واقعًا حيًّا يعيشه ويسير عليه بين الناس.
وينبغي علينا جميعًا أن نسعى إلى تحقيقها وإقامتها في مجتمعاتنا الإسلامية.
رابط تحميل كتاب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
http://alsallabi.com/books/view/506
كما ويمكنكم تحميل جميع مؤلفات فضيلة الدكتور سلمان العودة من موقع الدكتور علي الصَّلابي الرسمي