خطيب العالم (2)
الحلقة الرابعة والسبعون من كتاب
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
جُمَادَى الآخِرَة 1443 هــ / يناير 2022
إيجازٌ جامعٌ:
ولقد تعجبت يوم اطلعت على كتب السنة المعروفة؛ كـ«الصحيحين»، و«السنن» وغيرها، فلم أجد تلك الخطب الطويلة، والأحاديث المسهبة، وما يمكن وصفه بالطول نجده سياقًا لقصة، فخطبه صلى الله عليه وسلم كلمات معدودة، لكنها تمتاز بخصائص نموذجية عالية مثل: «الشمولية» في المعالجة للموضوعات المختلفة في شتى شؤون الحياة والعلم والدعوة، والسياسة والفقه، والعسكرية والإيمان؛ فهي ليست وعظًا محضًا مجرّدًا، بل يمتزج فيها الترغيب بالترهيب، والقصة بالعبرة، والحدث بالتحليل، والماضي بالحاضر بالمستقبل، وقضايا الإيمان واليقين بمسائل التشريع والتوجيه والتربية.
في لغة سهلة قريبة يفهمها الجميع، فلم تكن خطابًا خاصًّا موجّهًا للنُّخبة أو العِلية، ولا لشريحة معينة؛ فالصغار والبسطاء والعامة مخاطبون بشكل مباشر، ولهم أهميتهم وقدرهم في خطاب لا تستهلكه الأحداث عن التوجيه والتربية العامة، كما لا يغيب عنها طرفة عين، كيف وهو الصانع الرئيس لأهم الأحداث عليه السلام، والمشارك الأساس للناس في همومهم ومعايشة أدق التفاصيل في حياتهم!
خُطبٌ تفاعلية:
ومن أعمق الملاحظات في وصف خطبه صلى الله عليه وسلم القول بأنها كثيرًا ما تكون خُطبًا ذات سياق حواري، ممتلئة بكل أشكال تفاعل الناس والتفاعل معهم، وفي كثير من خطبه تجد أن أحدًا يقوم فيسأل، وآخر يقوم فيستشكل، وثالث يشكو، ورابع يحكي..
وفي «الصحيحين» من ذلك شيء عجيب، مثل حديث أنس رضي الله عنه حينما كان صلى الله عليه وسلم يخطب، فدخل رجلٌ فقال: يا رسولَ الله، هلكت الأموالُ وانقطعت السُّبُل، فادع اللهَ يغيثنا. فرفع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا». قال أنس: ولا والله، ما نرى في السماء من سحاب، ولا قَزَعَة وما بيننا وبين سَلْعٍ من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل التُّرْس فلما توسَّطت السماء انتشرت، ثم أمطرت، فلا والله، ما رأينا الشمس ستًّا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يخطب، فاستقبله قائمًا، فقال: يا رسول الله هلكت الأموالُ وانقطعت السُّبُل، فادع اللهَ يمسكها عنَّا، قال: فرفع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ». قال: فأقلعت.
وفي خطبة عيد الأضحى قام أبو بُردةَ بنُ نِيار رضي الله عنه فقال: «يا رسولَ الله، والله ِلقد نَسَكْتُ قبل أن أخرجَ إلى الصلاة..» إلخ.
وما أكثر الذين يقومون أو يدخلون من باب مسجده؛ فيسألونه وهو يخطب.
ومن ألطف هذا التفاعل نزوله صلى الله عليه وسلم من منبره وقد أَقْبَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رضي الله عنهما عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ، فَنَزَلَ فَأَخَذَهُمَا، فَصَعِدَ بِهِمَا الْمِنْبَرَ ثُمَّ قَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}، رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ». ثم أكمل خطبته.
وكان صلى الله عليه وسلم أثناء خطبته يسأل ويوجِّه، فيقيم الذين لم يؤدوا تحية المسجد؛ ليعلم الناس أن هذه الخطب النبوية الشريفة تعايش واقع الناس، وتفهمه، وتوجّهه إلى أرشد سبيل وأقوم نهج، بأسلوب علمي وعملي، دون أن تلحقه آفات التجريد والتنظير التي شُغل بها بعض المعاصرين، أو سيئات التحزّب والتصعيد التي فُتن بها آخرون، وطريق الاعتدال هو بين الغياب عن هموم الناس وأحداثهم وبين أن تستهلكه مجموعة من الأحداث التي تفقده توازنه وتماسكه.
رابط تحميل كتاب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
http://alsallabi.com/books/view/506
كما ويمكنكم تحميل جميع مؤلفات فضيلة الدكتور سلمان العودة من موقع الدكتور علي الصَّلابي الرسمي