(الهجرة النبوية المباركة...دروس وعبر)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الحادية عشر
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
محرم 1443 ه/ أغسطس 2021
ـ الصراع بين الحق والباطل صراع قديم وممتد:
وهو سنة إلهية نافذة، قال عز وجل: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج، آية : 40).
ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة ﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
ـ مكر الأعداء بالمصلحين مستمر متكرر:
سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض، وعلى المصلح أن يلجأ إلى ربه، وأن يثق به ويتوكل عليه، ويعلم: أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، قال عز وجل : ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال، آية : 30).
ـ دقة التخطيط والأخذ بالأسباب:
إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً، وأن التخطيط جزء من السنة النبوية، وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم، وأن الذين يميلون إلى العفوية، بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنة، أمثال هؤلاء مخطؤون، ويجنون على أنفسهم، وعلى المسلمين.(1)
*ـ وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت، برغم ما كان يكتنفها من صعاب وعقبات وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة، كان مدروساً دراسة وافية، فمثلاً:
ـ جاء صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر، في وقت شدة الحر ـ الوقت الذي لا يخرج فيه أحد ـ بل من عادته لم يكن يأتي له في ذلك الوقت لماذا؟ حتى لا يراه أحد.
ـ إخفاء شخصيته صلى الله عليه وسلم في أثناء مجيئه للصديق، وجاء إلى بيت الصديق متلثماً، لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم(2).
ـ أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يخرج من عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة، دون تحديد الاتجاه.
ـ كان الخروج ليلاً، ومن باب خلفي في بيت أبي بكر.
ـ بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة في ذلك بخبير يعرف مسالك البادية، ومسارب الصحراء، ولو كان الخبير مشركاً، مادام على خلق ورزانة وفيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها(3).
*ـ انتفاء شخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة، ويلاحظ أن هذه الشخصيات كلها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، مما يجعل من هؤلاء الأفراد، وحدة متعاونة على تحقيق الهدف الكبير.
*ـ وضع كل فرد من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب، الذي يجيد القيام به، على أحسن وجه، ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته.
*ـ فكرة نوم علي بن أبي طالب مكان الرسول صلى الله عليه وسلم فكرة ناجحة، قد ضللت القوم وخدعتهم وصرفتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى خرج في جنح الليل، تحرسه عناية الله وهم نائمون، وقد ظلت أبصارهم معلقة بعد اليقظة، بمضجع الرسول صلى الله عليه وسلم، فما كانوا يشكون في أنه ما يزال نائماً مسجى في بردته، في حين أن النائم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
لقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المعقولة أخذاً قوياً حسب استطاعته وقدرته، ومن ثم باتت عناية الله متوقعة(4).
ـ الأخذ بالأسباب أمر ضروري:
إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله ومشيئته، ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياً وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعدّ كل الأسباب، واتخذ كل الوسائل، ولكنه في الوقت نفسه مع الله يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح وهنا يستجاب الدعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار، وتسيخ فرس سراقة في الأرض، ويكلل العمل بالنجاح(5).
ـ دور المرأة في الهجرة:
وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة، كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد، منها: عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها، وبلغتها للأمة، وأسماء ذات النطاقين، التي أسهمت في تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله، فقد حدثتنا عن ذلك فقالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي.
قالت: فرفع أبو جهل يده ـ وكان فاحشاً خبيثاً ـ فلطم خدي لطمة طرح منها قُرطي، قالت: ثم انصرفوا(6)، فهذا درس من أسماء رضي الله عنها، تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل، كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم، وأما درسها الثاني البليغ فعندما دخل عليها جدُّها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت: كلا يا أبت ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس إذا كان ترك لكم هذا، فقد أحسن. وفي هذا بلاغ لكم، قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك(7).
ـ أمانات المشركين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
في إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع محاربتهم له، وتصميمهم على قتله دليل باهر على تناقضهم العجيب، الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويزعمون أنه ساحر، أو مجنون أو كذاب، لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً، فكانوا لا يضعون حوائجهم ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق الذي جاء به وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم() (8) وصدق الله العظيم، إذ يقول: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾ (الأنعام، آية : 33).
وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة، برغم هذه الظروف الشديدة التي كان المفترض أن يكتنفها الاضطراب بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط، برغم ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان لينسى، أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تُنسي الإنسان نفسه، فضلاً عن غيره(9).
ـ وضوح سنة التدرج:
حيث نلاحظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تقابل مع طلائع الأنصار ـ في لقائه الأول ـ لم يفعل سوى ترغيبهم في الإسلام، وتلاوة القرآن عليهم، فلما جاؤوا في العام التالي، بايعهم بيعة النساء على العبادات والأخلاق والفضائل، فلما جاءوا في العام الذي يليه، كانت بيعة العقبة الثانية على الجهاد والنصر والإيواء،(10) وجدير الملاحظة: أن بيعة الحرب لم تتم إلا بعد عامين كاملين، أي تأهيل وإعداد استمر عامين كاملين، وهكذا تم الأمر على تدرج ينسجم مع المنهج التربوي الذي نهجت عليه الدعوة من أول يوم(11).
إنه المنهج الذي هدى الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى التزامه، ففي البيعة الأولى، بايعه هؤلاء الأنصار الجدد على الإسلام عقيدة ومنهاجاً وتربية، وفي البيعة الثانية، بايعه الأنصار على حماية الدعوة، واحتضان المجتمع الإسلامي الذي نضجت ثماره، واشتدت قواعده قوة وصلابة.
مراجع الحلقة الحادية عشر
([1]) الأساس في السنة، سعيد حوى (1/ 357).
(2) السيرة النبوية للصلابي (1/ 385).
(3) الهجرة في القرآن الكريم لأحزمي سمعون ص: 361.
(4) أضواء على الهجرة، لتوفيق محمد، ص: 393 ـ 397.
(5) من معين السيرة لصالح أحمد الشامي ص: 148.
(6) تاريخ الطبري (2/ 379 ـ 380).
(7) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 102) إسناد صحيح.
(8) فقه السيرة، د.محمد سعيد البوطي، ص: 193.
(9) الهجرة في القرآن الكريم، ص: 364.
(0[1]) الهجرة النبوية المباركة لعبد الرحمان بر ص: 202.
(1[1]) بناء المجتمع الإسلامي في عصر النبوة، محمد توفيق، ص: 119.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: