الخميس

1446-10-26

|

2025-4-24

(أهمية العمل في المجتمع الإسلامي)

من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:

الحلقة: الحادية والخمسون

بقلم الدكتور : علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1443 ه/ أكتوبر 2021

الأصل في الإسلام أن يختار الإنسان ما يرغب فيه من العمل، كأن يكون نجاراً أو مزارعاً أو خياطاً أو معلماً أو طبيباً أو موظفاً في عمل من أعمال الدولة أو تاجراً أو غير ذلك، وهذا المبدأ ـ حرية اختيار العمل ـ أساسه من أن الناس يتفاوتون في القدرات، والمواهب، والخبرات والهوايات المختلفة في القيام بالأعمال واختيار الحرف، ولم يقيد الإسلام الإنسان إلا بمشروعية العمل،وهذه القاعدة لم يستطع أي نظام أن يخالفها أو ينكرها، بل أن المساواة التامة بين الأفراد في الأعمال وعدم التفاوت لا تكاد توجد في أي مجتمع مهما كان الحال، وكذلك اختيار العمل يكون عاملاً هاماً في دفع الإنسان إلى بذل الطاقة الحقيقية مع إتقان العمل وإن أسوأ المجتمعات هي التي توكل الأعمال إلى من لا يحسنها وإلى من ليس له ميل إليها ولا موهبة له في إتقانها ويكون كل واحد من الناس موضوعاً في موضعه اللائق به، وقد ورد في الحديث: «إذا أُسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»، وإن أحسن المجتمعات وأقدرها على الإنتاج كثرة وإتقاناً هي تلك التي يوزع فيها الأفراد كل ما يناسب قدرته ومواهبه وميوله.

إن تنوع التخصصات وكثرة التفاوت من سمات المجتمعات الراقية، وكلما كان المجتمع أرقى كان التفاوت والتخصص أكثر، وذلك يؤدي إلى ما سمَّاه بعض علماء الاجتماع بالتضامن العضوي للمجتمع، فكل فرد يقدم من العمل والإنتاج ما يقدر عليه بحسب ما أوتي من قدرة ومواهب ويحاسب على هذا الأساس، وقد أشار القرآن الكريم إلى مثل هذا النوع من التفاوت الذي تعود ثمرته على الإنسانية جمعاء(1).

ــ قال تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ (الأنعام ، آية : 165).

ــ وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم﴾ (المائدة ، آية : 48).

لقد كان القرآن صريحاً في التعبير عن هذا القانون الاجتماعي وهو تفاوت الناس في مواهبهم وقدراتهم وبالتالي في أعمالهم ويتعرفون إليها، وهذا الاختلاف في المواهب والقدرات هو الذي يجعل كل إنسان يحتاج إلى غيره من الناس مهما كانت أعمالهم لأن حاجات الإنسان متنوعة ومتعددة ولا يستطيع إشباعها بمفرده، فمنها ما هو مادي، ومنها ما هو نفسي أو عقلي، ولذلك كل إنسان مسخر لقضاء حاجات الآخرين حتى ولو لم يشعر هو بذلك، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة(2).

ــ قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ الزخرف ، آية : 32).

أي: أن الله خلق الناس متفاوتين في القدرات، يقدم كل واحد منهم من الأعمال ما يحتاج إليه الآخر، وكذلك الآخر بالمقابل وكذلك الآخر بالمقابل، بمعنى أن كل واحد بالنسبة إلى الآخر مسخَّر على وجه التبادل والتعاون، فأهل الحرف مثلاً، كالخباز والنجار والحداد يُسخِّرون المعلم لتعليم أولادهم والمعلم يُسخرهم لما يحتاج إليه من خبز أو حدادة أو تجارة، وكذلك الطبيب والمهندس والمزارع والبنَّاء، والموظف، وسائر أصحاب الأعمال يسخر بعضهم بعضاً فيما يتقنونه ويحسنونه ويقدمون من أعمال وخدمات، بالمقابل والتبادل بها وبهذا المعنى فسر الآية كبار المفسرين كالزمخشري والرازي وابن كثير وغيرهم فقال الزمخشري: ليرتفق الناس بعضهم بعضاً(3).

وقال ابن كثير: قيل معناه ليسخر بعضهم بعضاً في الأعمال لاحتياج هذا المعنى: وقال الرازي: جعل تعالى ذكره بعضاً لبعض سبباً في المعاش في الدنيا(4).

إن الاختلاف والتباين بين البشر سبب لتعاونهم وذلك ليكمل بعضهم بعضاً، وليتوزعوا الأعمال المختلفة المتنوعة التي يحتاج إليها المجتمع وليتبادلوها فيما بينهم فيحصل لهم النفع جميعاً(5).

من هذا المفهوم للتفاوت في القدرات والمواهب نشأت فكرة اتفق عليها علماء المسلمين وأوضحوها وتناقلوها، وهي أن الصناعات وجميع الأعمال التي يحتاج إليها المجتمع هي فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وإذا لم يقم بها أحد أثموا جميعاً، قال الغزالي في إحياء علوم الدين : أما فرض الكفاية فكل علم لا يستغنى عن قوام أمور الدنيا كالطلب والحساب وأصول الصناعات والسياسة، وقال ابن تيمية: قال غير واحد من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم.. أن هذه الصناعات كالفلاحة والنساجة والبناية فرض على الكفاية فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها(6). إن التفكير الإسلامي الأصيل المستند إلى مصادره الأساسية الكتاب والسنة ينظر إلى الفرد في إطار المجتمع، ولم ينظر إليه منعزلاً في هذا المجال الاقتصادي، كما في غيره في المجالات، فالإسلام لا يعرف فرداً بدون جماعة ولا يعرف مجتمعاً بدون أفراد كما أنه لا يعرف مجتمعاً للرجال بدون النساء، ولا مجتمعاً للنساء بدون رجال ولا يعتبر مصلحة الدنيا بدون اعتبار مصلحة الدين لأن الدنيا مزرعة الآخرة.

إن التصور الإسلامي يعتبر أصحاب الأعمال على اختلاف أنواعها متساوين في القيمة الإنسانية والكرامة البشرية، ويتفاضلون بما يقدمون للمجتمع من منافع(7).

مراجع الحلقة الحادية والخمسون:

( ) النظام السياسي والاقتصادي، يوسف العالم، ص: 31.

(2) النظام السياسي والاقتصادي، يوسف العالم، ص: 31.

(3) الحريات من القرآن الكريم للصلابي، ص: 157.

(4) النظام السياسي والاقتصادي، ص: 32.

(5) المصدر نفسه، ص: 32.

(6) الحسبة لابن تيمية، النظام السياسي والاقتصادي، ص: 32.

(7) الحريات من القرآن الكريم للصلابي، ص: 158.

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022