(مسؤوليات العمل في المجتمع الإسلامي)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الثانية والخمسون
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1443 ه/ أكتوبر 2021
إن مسؤولية العمل تتقاسمها ثلاث أطراف وهي:
أ ـ العمال:
فأما العمال فقد أنزلتهم الشريعة منزلة رفيعة، وأولتهم عناية خاصة وتعاملت معهم على أساس ما يلي من القواعد:
ـ تكريم اليد العاملة والثناء على أهلها، كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده»(1).
ـ تقدير الجهود العمالية واعتبارها من محاسن الأفعال التي يحبها الله لما في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صافح سعد بن معاذ رضي الله عنه، فإذا يداه قد أكتبتا(2)، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أضرب بالمُر(3) والمسحاة لأنفق على عيالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفان يحبهما الله»(4).
ـ تفضيل العمل كيفما كان على مذلة السؤال، ولو كان جمع حزمة حطب وبيعها، أو اشتغالاً بأبسط الحرف، أو امتهان أي مهنة مهما قلت عائداتها، فهي أفضل من أن يبقى الإنسان عالة على غيره ينتظر أن يجود عليه بشيء كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه»(5).
ـ اعتبار إتقان العمل من موجبات المحبة الإلهية، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه»(6).
اعتبار أتعاب العمل في أسباب المغفرة الإلهية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بات كالاً من عمله بات مغفوراً له»(7).
ـ حرمان القادرين على العمل من حق التكافل الاجتماعي متى امتنعوا عن القيام به، إذ : لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرَّة سوي(8.
ـ تمكين العمال من مستحقاتهم وإن كان عملهم بنية التطوع في سبيل الله، فعن ابن الساعدي قال: استعملني عمر على الصدقة، فلما فرغت أمر لي بعمالة(9)، فقلت: إنما عملت لله، قال: خذ ما أعطيت، فإني قد عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعمّلني(10). وهو ما يفيد بأن للدولة الحق في مراقبة موظفيها ومحاسبة كل من يخل بواجباته المهنية بغير عذر، ولا يقبل من أي كان منهم التعلل بأنه مجرد متطوع بعمل في سبيل الله، وبهذا يستقيم تدبير الشأن العام، وتحفظ المصالح العامة من الإهمال والضياع(11).
ــ تجريم سرقة المال العام من طرق العمال والموظفين في مؤسسات الدولة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول«(12).
ــ من ظلم من العمال فله الحق في الدفاع عن نفسه ورفع مظلمته بجميع الطرق المشروعة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لصاحب الحق مقالاً»(13).
ب ـ أصحاب العمل:
وأما أرباب العمل: فقد تعاملت معهم الشريعة وفق مجموعة من القواعد وطالبتهم بمجموعة من الالتزامات التنظيمية في تعاملهم وأهمها:
ــ إخبار العمال بمقادير أجورهم قبل البدء في العمل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استأجر أجيراً فليعلمه أجره»(14).
ــ تكليف العمال بما يطيقون من الأشغال، لأنه تكليف بما لا يطاق، وكل من عجز عن شيء سقط عنه.
ــ أداء مستحقات العمل في الوقت المناسب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»(15).
ــ محاسبة المستأجرين عن التماطل في أداء مستحقات العمال أو الامتناع عن تسليمها لهم، لقول الله تعالى في الحديث القدسي: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره»(16).
جـ ـ الدولة:
وأما الدولة، فقد ألزمتها الشريعة برعاية المصالح العامة وطالبتها بما يلي:
ــ تهيئة فُرص العمل وتمكين كل القادرين ممَّا يناسب كفاءاتهم من الوظائف، لأن ذلك من الفروض الكفائية العامة الواجبة على الدولة.
ــ رعاية العاجزين عن العمل، كمن أقعدته عاهة، أو مرض، أو ضعف مدني، أو شيخوخة عن العمل، والإنفاق عليهم من المال العام(17).
ــ تحفيز العمال والموظفين على الاجتهاد في العمل بمختلف المحفزات المساعدة على توفير أجواء الاستقرار النفسي والاجتماعي، وفي مقدمتها تزويج غير المتزوجين من الموظفين وتمكينهم من الأعوان والمساعدين، وتوفير السكن الوظيفي لكل من ليس له سكن، على حساب المال العام، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له عاملاً، فلم يكن له زوجة فليكتسب له زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً، ومن اتخذ غير ذلك فهو غالٍ أو سارق»(18).
وكل هذا أكد المصالح الاجتماعية الكفائية الواجبة على الدولة وليس منة منها ولا إحسانٍ(19).
وهذه القواعد الشرعية والقيم التكريمية تحتاج إلى تفعيل في واقع مجتمعاتنا بين الباحثين عن العمل وأصحابه والدولة، ومما يساعد على تفعيل القواعد والأصول المذكورة إعادة تشكيل العقلية العامة للشعوب في اتجاه إقناعها بأهمية توزيع الخيرات بشكل عادل بين الناس، وتقسيم فرص العمل دون تمييز بين أفواج المعطلين ومساعدة ذوي الكفاءات على إيجاد مشاريع عمل يكسبون بها قوتهم اليومي ويساهموا في ارتقاء شعوبهم وتطوير دولهم(20).
لقد رفع الإسلام من قيمة العمل وحث عليه، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك ، آية : 15).
وأعطى الإسلام الإنسان حرية العمل في كافة المجالات إلا فيما يتعارض مع النصوص الشرعية وأحكام الإسلام.
ــ كالتعامل بالربا أو القمار، أو بيع الخمور أو الدعارة.. الخ أو فيما يتعارض مع حقوق الآخرين وحرياتهم(21).
إن الإسلام يعتبر كل جهد نافع، ويحقق مصلحة لصاحبه، أو للناس والمجتمع عمل مطلوب شرعاً وإن وجوه العمل في الإسلام غير محددة، وتشمل كل جهد بناء وتغطي جميع النشاطات في المجال التجاري والزراعي والصناعي والمهني وممارسة كل الحرف التي تخدم البشرية والأعمال اليدوية والذهنية والفكرية والأدبية حتى اعتبر الفقهاء رئاسة الدولة والخلافة والولاية عملاً وهو ما صرّح به أبو بكر رضي الله عنه بقوله: إني لأعمل للمسلمين ويطلق على الولاة اسم العمال، وتتكرر عبارة: أرسل عامله " وأرسل إلى عامله على كذا".
وقد أعطى الإسلام للأفراد الحق في العمل، أو الامتناع عنه وفي اختيار هذا العمل أو النوع أو ذلك، وهذه الحرية مقررة شرعاً لأنها فرع عن حرية الرأي والتفكير وتدخل ضمن الحريات الشخصية، ولكل إنسان أن يعمل ما يشاء وأن يكسب ـ من الطرق المشروعة ـ ما شاء وله الحق في اختيار وقت العمل وساعاته، واختيار الوقت، إذا كان يعمل لنفسه، فإن عمل إلى غيره فالعبرة في العقود ـ عامة ـ وعقد العمل خاصة بالتراضي وما يتم الاتفاق عليه، في تقييد الزمان والمكان، وتحديد ساعات العمل وأجره، ولا يقيد العمل إلا القيود العامة في الحلال والحرام وضمن الأحكام الشرعية وألا يؤدي العمل إلى الإضرار والضرر بالغير، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»(22).
والغالب أن يتم اختيار العمل من صاحبه حسب الإمكانيات الخاصة والمواهب الممنوحة له، والمهارة التي يتقنها، وما فطره الله تعالى له من ترك حرية الاختيار له حسب هذه الفطرة، وبذلك ورد في الحديث: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»(23).
كما يتبع حرية العمل حق التنقل والانتقال والسفر في أطراف الأرض لاختيار العمل المناسب والأجر المناسب، وأن الانتقال والسفر والضرب في الأرض يعتبر عذراً للإنسان في الرُّخص الشرعية، وقدّم القرآن الكريم عُذر العمل على عذر المجاهد، فقال تعالى: ﴿فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ (المزمل، آية : 20).
ـ كما يتفرع على حرية العمل حق العامل في الانضمام إلى تنظيم عمالي يضم أفراد حرفته أو مهنته، لتنسيق الأعمال والمطالبة بالحقوق، وتنظيم الأجور والأوقات، بما لا يضر بالمصلحة العامة(24).
مراجع الحلقة الثانية والخمسون:
( ) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 2072.
( ) أكتبت اليد: إذ غلظ جلدها من العمل.
( ) المُر: المحراب.
(4) المبسوط للسرخسي (30/ 33).
(5) البخاري الجامع الصحيح رقم: 1968.
(6) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، رقم: 1113.
(7) صحيح وضعيف الجامع الصغير للألباني، رقم: 11798.
(8 صحيح ابن حبان، رقم: 3290.
(9) عمالة: ما يقابل العمل من الأجر.
(0 ) عمّلني: أعطاني أجر عملي.
(1 ) مصالح الإنسان مقاربة مقاصدية عبد النور بزا، ص: 263.
(2 ) سنن أبي داوود رقم 2943.
(3 ) التمهيد لابن عبد البر (4 / 88) وزارة الأوقاف المغرب.
(4 ) الهداية شرح البداية للمرغيناني (3 / 231).
(5 ) سنن ابن ماجه، الحديث رقم: 2443 (2/ 817).
(6 ) البخاري، الجامع الصحيح، رقم: 2150.
(7 ) مغني المحتاج للشربيني (1 / 404).
(8 ) صحيح وضعيف الجامع الصحيح للألباني، رقم: 6486.
(9 ) مصالح الإنسان مقاربة مقاصدية، ص: 265.
(20) المصدر نفسه، ص: 266.
(21) حقوق الإنسان، علي محمد الدباس، ص: 45.
(22) حقوق الإنسان في الإسلام، محمد الزحيلي، ص: 284.
(23) رواه الطبراني الفتح الكبير (1/ 202).
(24) الحريات من القرآن الكريم للصلاّبي، ص: 164.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: