مقاصد تكوين الأسرة في الدولة المسلمة
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: السابعة والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1443 ه/ أكتوبر 2021
ـ حفظ النسل:
وتحقيقاً لهذا المقصد قصر الإسلام الزواج المشروع على ما يكون بين ذكر وأنثى وحرّم كل صور اللقاء خارج الزواج المشروع، كما حرّم العلاقات الشاذة التي لا تؤدي إلى الإنجاب، وفي هذا تعمير للأرض وتواصل للأجيال، قال الله جل شأنه : ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود، آية : 61)(1).
ـ وقال تعالى: ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ (النحل، آية : 72).
وكان من دعاء عباد الرحمن :﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ (الفرقان، آية : 74).
وقال الخليل إبراهيم : ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ (الصافات، آية : 100 ـ 101).
وقال زكريا عليه السلام : ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ (مريم، آية : 5 ـ 6).
فجاء الجواب الإلهي ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا﴾ (مريم، آية : 7).
ـ تحقيق السكن والمودة والرحمة:
وشُرِّعت أحكاماً وآداباً بالمعاشرة بالمعروف بين الزوجين حتى لا تنحصر العلاقة بين الزوجين في صورة جسدية بحتة، قال الله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (النساء، آية : 19). والمعروف هنا ما يقره العرف السليم واعتاده أهل الاعتدال والاستقامة من الناس، قال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ (البقرة، آية : 187).
وإنما عُبِّر عن هذه العلاقة باللباس لما توحى به الكلمة من الزينة والستر واللصوق والدف، قال تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾ (آل عمران، آية : 195).
ومعنى ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾: أن المرأة من الرجل والرجل من المرأة، فلا خصومة ولا تناقض، بل تكامل وتعاون وتناسق(2).
ـ حفظ النسب:
ولهذا المقصد أبطل الله تعالى نظام التبني وأمرنا بإرجاع نسب الأولاد بالتبني إلى أنسابهم الحقيقية، قال تعالى: ﴿مَّا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (الأحزاب، آية : 4 ـ 5).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل دعا إلى غير والديه، أو تولى غير مواليه الذين أعتقوه، فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين إلى يوم القيامة، لا يقبل منه صرف(3) ولا عدل»(4).
ولأجل حفظ النسب حرم الإسلام أيضاً الزنا، وشرعت الأحكام الخاصة بالعدة، وعدم كتم ما في الأرحام، وإثبات النسب وجحده وهي أحكام لها تفصيلها في مظانها من المراجع الفقهية(5).
ـ الإحصان:
يوفر الزواج الشرعي صون العفاف، ويحقق الإحصان، ويحفظ الأعراض، ويسد ذرائع الفساد الجنسي بالقضاء على فوضى الإباحية والانحلال، وقد اختص الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولهم بواقعه، ومحاولة تهذيبها والارتقاء بها لا كبتها ولا قمعها، قال الله جل شأنه : ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران، آية : 14).
وهي شهوات مستحبة مستلذة لكنها يجب أن توضع في مكانها لا تتعداها ولا تطغي على ما هو أكرم من الحياة وأعلى(6).
والقرآن الكريم لا يضع أي قيد على الاستمتاع بين المرء وزوجه : ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ (البقرة، آية : 223).
مادام الاستمتاع في موضع الحرث وفي غير موضع الأذى وزمانه، قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة، آية : 222).
ـ حفظ التدين والأسرة:
الأسرة محضن الأفراد ولا برعاية أجسادهم فقط، بل الأهم غرس القيم الدينية والخلقية في نفوسهم، وتبدأ مسؤولية الأسرة في هذا المجال قبل تكوّن الجنين بحسن اختيار كل من الزوجين إلى الآخر، وأولوية المعيار الديني والخلقي في هذا الاختيار(7).
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (البقرة، آية : 221).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم من ترضونه دينه (8)وخلقه زوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض».
وتستمر مسؤولية الأسرة بتعليم العقيدة والعبادة والأخلاق لأفراد الأسرة، وتدريبهم على ممارستها ومتابعة ذلك حتى بلوغ الأطفال رشدهم واستقلالهم بالمسؤولية الدينية عن تصرفاتهم(9).
قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ (طه، آية : 132).
وقال جل شأنه عن النبي اسماعيل عليه السلام: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ (مريم، آية : 55).
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (التحريم، آية : 6).
وهذه التعاليم القرآنية والإرشادات النبوية تأخذها الدولة الحديثة بعين الاعتبار، في تشريعاتها وقوانينها المتعلقة بحقوق المرأة والأسرة، فالنساء شقائق الرجال، ولهن كافة الحقوق وعليهن تحمل كافة الواجبات على قدم المساواة مع الرجل، وبمراعاة أحكام الشريعة الإسلامية، والتقاليد الأسرية، والأسرة هي الخلية الإنسانية في المجتمع، قوامها الدين والأخلاق وحب الوطن، وتكفل الدولة حمايتها ورعايتها واستقرارها، كما تكفل الدولة حماية ورعاية الأمومة والطفولة والنشىء.
ـ المرأة في الدولة الحديثة ذات المرجعية الإسلامية:
المرأة شريك في بناء الدولة ونموها، ومن ثمَّ يجب العمل على تمكينها وتعزيز مكانتها وإعدادها علمياً ومهنياً وتحريك وتوظيف طاقتها في بناء ونهضة المجتمع، وذلك عن طريق إعطائها الفرص المتكافئة في كل مناحي الحياة، لتأخذ دورها مع الرجل كشريك مؤهل وجدير ببناء الأسرة والمجتمع والدولة بأثرها.
ـ وضع منظومة من التشريعات تكفل محاربة كل أنواع التمييز أو التفرقة أو العنف ضد المرأة.
ـ العمل على وضع إستراتيجية وطنية للنهوض بواقع المرأة وتأهيلها وتشغيلها وتدريبها، وذلك من خلال التعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية ذات الصلة.
ـ العمل على تقوية روابط الأسرة والتركيز على القيم والمفاهيم الإنسانية.
ـ تقديم الدعم النفسي والمعنوي للنساء المعنفات والمطلقات والأرامل، والمهجرات والمعتقلات.
ـ تحقيق التواصل مع المرأة لدراسة قضاياها وتقييم أوضاعها.
ـ الأخذ بالتجارب الرائدة إقليمياً وعالمياً بما يتناسب مع المجتمع واقتراح السياسات والحلول الداعمة لنهضة المرأة.
ـ إشراك منظمات المجتمع المدني في النهوض بمسيرة للنهوض بالمرأة.
ـ تنفيذ السياسات والخطط والبرامج ذات الصلة بالارتقاء بأوضاع المرأة.
ـ تنظيم الحلقات التدريبية وعقد الورش والمؤتمرات لمعالجة قضايا المرأة والأسرة.
ـ بناء قاعدة لتجميع ورصد وتحليل المعلومات والبحوث والدراسات الخاصة بالأنشطة والبرامج المتعلقة بالمرأة والأسرة.
مراجع الحلقة السابعة والخمسون:
( ) ميثاق الأسرة في الإسلام، اللجنة العالمية للمرأة والطفل، ص: 132.
(2) ميثاق الأسرة في الإسلام، ص: 135.
(3) الصرف: الفريضة، أو النافلة، وقيل التوبة.
(4) العدل: الفدية أو التوبة. حديث صحيح رواه أحمد والدارمي.
(5) ميثاق الأسرة في الإسلام، ص: 137.
(6) ميثاق الأسرة في الإسلام، ص: 137.
(7) المصدر نفسه، ص: 138.
( سنن الترمذي وابن ماجه، ميثاق الأسرة، ص: 154.
(9) ميثاق الأسرة في الإسلام، ص: 138.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: