الخميس

1446-10-26

|

2025-4-24

(تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع مالك بن عوف النصيري: دروس وعبر)

من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:

الحلقة: التاسعة والأربعون

بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1443 ه/ أكتوبر 2021

جاء وفد هوازن بعد هزيمتهم في حنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعْرَانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله إنا أصل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا منّ الله عليك، وقام خطيبهم زهير بن صرد أبو صُرد، فقال: يا رسول الله، إنما في الحظائر من السبايا خلاتك، وحواضنك اللّاتي كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا لأبن أبي شمر أو النعمان بن المنذر(1)، ثم أصابنا منها مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت رسول الله خير المكفولين، ثم أنشأ يقول:

امنن علينا رسول الله في كرم

فإنك المرءُ نرجوه وننتظر(2)

إلى أن قال:

امنن على نسوة قد كنت ترضعها

إذ فوْك يملؤه من محضها دَرَرُ

امنن على نسوة قد كنت ترضعها

وإذ يزينك ما تأتي وما تذر

فكان هذا سبب إعتاقهم عن بكرة أبيهم، فعادت فواضله عليه السلام قديماً وحديثاً وخصوصاً وعموماً(3).

فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوفد قال لهم: «نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟» فقالوا: يا رسول الله: خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، بل ابناؤنا ونساؤنا أحب إلينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمَّا ما كان لي، ولبني عبد المطلب، فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس فقوموا، فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبنائنا ونسائنا، فإني سأعطيكم عند ذلك، وأسأل لكم». فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر، قاموا فقالوا ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم». فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله، وقالت الأنصار، وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الأقرع بن حابس: أمّا أنا وبنو تميم، فلا، وقال عيينة: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس بن مرداس السَّلميُّ: أما أنا، وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فيء نصيبه فردّوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم»(4).

وفي رواية: فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المؤمنين فقال: «إن إخوانكم هؤلاء جاؤونا تائبين، وإني أردت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيّب ذلك فليفعل»، فقال الناس: طيبنا يا رسول الله لهم. فقال لهم: «إنا لا ندري من أذن منكم فيه ممن لم يأذن فأرجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمَركم». فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا(5).

وقد سُرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلام هوازن وسألهم عن زعيمهم مالك بن عوف النصري، فأخبروه أنه في الطائف مع ثقيف، فوعدهم بردّ أهله وأمواله عليه، وإكرامه بمئة من الإبل إن قدم عليه مسلماً، فجاء مالك مسلماً فأكرمه وأمّره على قومه وبعض القبائل المجاورة، ولقد تأثر مالك بن عوف، وجادت قريحته لمدح النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله

في الناس كلهم بمثل محمد

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى

ومتى تشاء يخبرك عما في غد

وإذا الكتيبة عرّدت(6) أنيابها

بالسمهري وضرب كل مُهنَّد

فكأنه ليث على أشباله

وسط الهباءة(7) خادر(8 في مرصد(9)

لقد كانت سياسته صلى الله عليه وسلم مع خصومه مرنة إلى أبعد الحدود، وبهذه السياسة الحكيمة استطاع صلى الله عليه وسلم أن يكسب هوازن وحلفاءها إلى صف الإسلام، واتخذ من هذه القبيلة القوية رأس حربة يضرب بها قوى الوثنية في المنطقة ويقودها زعيمهم مالك بن عوف الذي قاتل ثقيفاً في الطائف حتى ضيّق عليهم، وقد فكر زعماء ثقيف في الخلاص من المأزق بعد أن أحاط الإسلام بالطائف من كل مكان، فلا تستطيع تحركاً ولا تجارة، فمال بعض زعماء ثقيف إلى الإسلام، مثل عروة بن مسعود الثقفي، الذي سارع إلى اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة بعد أن قسم غنائم حنين، واعتمر من الجعرانة، فالتقى به قبل أن يصل إلى المدينة، وأعلن إسلامه، وعاد إلى الطائف، وكان من زعماء ثقيف محبوباً عندهم، فدعاهم إلى الإسلام وأذَّن في أعلى منزله، فرماه بعضهم بسهام فأصابوه، فطلب من قومه أن يدفنوه مع شهداء المسلمين حصار الطائف(10).

إن الإنسان ليعجب من فقه النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة النفوس، وفي سعيه الحثيث في بناء الدولة والتمكين لدين الله تعالى، لقد استطاع صلى الله عليه وسلم أن يزيل معالم الوثنية وبيوتات العبادة الكفرية من مكة وما حولها، ورتب صلى الله عليه وسلم الأمور التنظيمية للأراضي التي أضيفت للدولة الإسلامية، فعيّن عتاب بن أسيد أميراً على مكة، وجعل معاذ بن جبل مرشداً وموجهاً ومعلماً ومربياً(11)، وعيَّن على هوازن مالك بن عوف قائداً ومجاهداً، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة صلى الله عليه وسلم.

مراجع الحلقة التاسعة والأربعون

([1]) البداية والنهاية (4/ 352).

(2) المصدر نفسه (4/ 352).

(3) البداية والنهاية (4/ 363، 364).

(4) البيهقي في الدلائل (5/ 194 ـ 195).

(5) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 4318، ورقم: 4319.

(6) عرّدت: اشتدت وضربت، القاموس المحيط (1/ 313).

(7) الهباءة: غبار الحرب.

(8 الخادر: المقيم في عرينه.

(9) السيرة النبوية لابن هشام (4/ 144).

(0[1]) السيرة النبوية لابن هشام (4/ 144).

(1[1]) المصدر نفسه (4/ 192).

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022