(من سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم "جعفر بن أبي طالب" رضي الله عنه)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: السابعة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1443 ه/ أكتوبر 2021
ــ كانت الأهداف من هجرة الحبشة متعددة، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار نوعيات معينة لتحقيق هذه الأهداف، كشرح حقيقة الإسلام، وموقف قريش منه، وإقناع الرأي العام بعدالة قضية المسلمين عى نحو ما تفعله الدول الحديثة من تحرك سياسي، يشرح قضاياها وكسب الرأي العام إلى جوارها(1)، وفتح أرض جديدة للدعوة، فلذلك هاجر سادات الصحابة في بداية الأمر، ثم لحق بهم أكثر الصَّحْب وأوكل الأمر إلى جعفر رضي الله عنه(2).
ــ إن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى الحبشة يشير إلى نقطة استراتيجية مهمة، تمثلت في معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بما حوله من الدول والممالك، فقد كان يعلم طيِّبها من خبيثها، وعادلها من ظلمها، الأمر الذي ساعد على اختيار دار آمنة لهجرة أصحابه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال القائد الناجح، الذي لا بد أن يكون ملماً بما يجري حوله، مطلعاً على أحوال وأوضاع الأمم والدول والحكومات(3).
ــ كان وعي القيادة النبوية على مستوى الأحداث، ولذلك وُضع جعفر بن أبي طالب على إمارة المسلمين في الهجرة، وتمَّ اختياره من قبل المسلمين المهاجرين، ليتحدَّث باسمهم بين يدي الملك، وليتمكن من مواجهة داهية العرب عمرو بن العاص، وقد امتازت شخصية جعفر بعدة أمور، جعلته يتقدم لسد هذه الثغرة العظيمة، منها: أنَّ جعفر بن أبي طالب من ألصق الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد عاش معه في بيت واحد، فهو أخبر الناس بقائد الدعوة وسيد الأمة من بين كل المهاجرين إلى الحبشة.
وهذا الموقف بين يدي النجاشي يحتاج إلى بلاغة، وفصاحة، وبنو هاشم قمة قريش نسباً وفضلاً، وجعفر في الدّؤابة (4)من بني هاشم، والله تعالى قد اختار هاشماً من كنانة واختار نبيه من هاشم، فهو أفصح الناس لساناً وأوسطهم نسباً، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يجعل النجاشي أكثر اطمئناناً، وثقة بما يعرض عن ابن عمه(5).
خُلق جعفر المقتبس من مشكاة النبوة وجمال خلقه المنحدر من أصلاب بني هاشم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر: «أشبهت خلقي وخُلُقي»(6)، فالسفير بين يدي النجاشي كان قدوة لسفراء المسلمين على مر الزمان، وكرَّ العصور، فقد اتصف بسمات السفراء المسلمين، كالإسلام وانتماء إليه، والفصاحة والعلم، وحسن الخلق، والصبر والشجاعة والحكمة، وسعة الحيلة، والمظهر الجذاب(7).
ــ كان رد جعفر على أسئلة النجاشي في غاية وقمة المهارة السياسية والإعلامية والدعوة والعقدية، فقد قام بالتالي:
ــ عدَّد عيوب الجاهلية وعرضها بصورة تنفر السامع، وقصد بذلك تشويه صورة قريش في عين الملك، وركَّز على الصفات الذميمة التي لا تنتزع إلا بنبوة.
ــ عرض شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المجتمع الآسن( المليء بالرذائل، وكيف كان بعيداً عن النقائص كلها، ومعروفاً بنسبه وصدقه وأمانته وعفافه فهو المؤهل للرسالة.
ــ أبرز جعر محاسن الإسلام وأخلاقه، التي تتفق مع أخلاقيات دعوات الأنبياء، كنبذ عبادة الأوثان، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وكون النجاشي وبطارقته موغلين في النصرانية فهم يدركون أن هذه رسالات الأنبياء التي بعثوا بها من لدن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
ــ فضح ما فعلته قريش بهم، لأنهم رفضوا عبادة الأوثان وآمنوا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وتخلقه بخلقه.
ــ أحسن الثناء على النجاشي بما هو أهله بأنه لا يظلم عنده أحد، وأنه يقيم العدل في قومه.
ــ وأوضح أنهم اختاروه كهفاً من دون الناس، فراراً من ظلم هؤلاء الذين يريدون تعذيبهم، وبهذه الخطوات البينة الواضحة دحر بلاغة عمر وفصاحته واستأثر بلبِّ النجاشي وعقله، وكذلك استأثر بلبِّ وعقل البطارقة والقسيسين الحاضرين.
وعندما طلب النجاشي شيئاً ممّا نَزل على محمد صلى الله عليه وسلم، جاء صدر سورة مريم في غاية الإحكام والروعة والتأثير، حتى بكى النجاشي وأساقفته وبلَّلوا لحاهم ومصاحفهم بالدموع، واختيار جعفر لسورة مريم يظهر بوضوح حكمة وذكاء مندوب المهاجرين، فسورة مريم تتحدث عن مريم وعيسى عليهما السلام(9).
إن عبقرية جعفر رضي الله عنه في حسن اختيار الموضوع، والزمن المناسب، والقلب المتفتح والشحنة العاطفية أدت إلى أن يربح الملك إلى جانبه(10).
كان ردّه في قضية عيسى عليه السلام دليلاً على الحكمة والذكاء النادر، فقد ردّ بأنهم لا يُؤلهون عيسى ابن مريم، ولكنهم كذلك لا يخوضون في عرض مريم عليها السلام، كما يخوض الكاذبون، بل عيسى ابن مريم كلمة الله وروحه ألقاها إلى مريم البتول العذراء الطاهرة، وليس عند النجاشي زيادة عما قال جعفر، ولا مقدار هذا العود(11)، هم لا يسجدون للنجاشي، فهم معاذ الله أن يعدلوا بالله شيئاً، ولا ينبغي السجود إلا لله، لكنهم لا يستخفون بالملك بل يوقرونه، ويسلمون عليه كما يسلمون على نبيهم ويحيونه بما يُحيّي أهل الجنة أنفسهم به في الجنة(12).
انتهى الأمر بأن أعلن النجاشي صدق القوم، وأيقن بأن هؤلاء صدّيقون، وعزم على أن يكون في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه ناموس كناموس موسى، وأن يتقرّب إلى الله بحماية أصحابه وأكّد لعمرو أنه لا يضيره تجارة قريش ولا مال قريش ولا جاهها، ولو قطعت علاقتها معه(13).
انهزمت قريش في هذه الجبهة سياسياً ومعنوياً وإعلامياً أمام مقاومة المسلمين الموفقة وخطواتهم وأساليبهم الرصينة(14).
مراجع الحلقة السابعة والأربعون
([1]) أضواء على الهجرة، توفيق محمد سبع، ص: 427.
(2) التربية القيادية، منير الغضبان (1 / 333).
(3) السيرة النبوية (1 / 289).
(4) الدؤابة من كل شئ: أعلاه.
(5) التربية القيادية (1 / 335).
(6) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 2699.
(7) سفراء النبي صلى الله عليه وسلم، محمود شيت (2 / 252 ـ 317).
( الآسن: المتغير الفاسد.
(9) السيرة النبوية للصلابي (1 / 292).
(0[1]) التربية القيادية (1/ 337).
(1[1]) المصدر السابق (1/ 342).
(2[1]) التربية القيادية (1/ 342).
(3[1]) السيرة النبوية للصلابي (1/ 293).
(4[1]) المصدر نفسه (1/ 293).
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: