(تجدُّد هجمات عماد الدين زنكي على دمشق)
من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
الحلقة: 54
بقلم: د.علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1444 ه/ أكتوبر 2022م
ظنَّ عماد الدين زنكي: أنَّ بهذا الرباط العائلي ستصبح دمشق في متناول يده إلا أنه لم يكسب شيئاً، باستثناء الحصول على حمص فقط، أما ضمُّ دمشق الذي كان هدفه الأساسي من هذا الزواج؛ فلم يتحقق.
ويقول ابن الأثير في ذلك: «إنما حمله على الزواج بها ما رأى من تحكُّمها في دمشق، فظن أنه يملك البلد بالاتصال بها، فلما تزوجها خاب أمله، ولم يحصل على شيء، فأعرض عنها»(1) فما الذي تغيّر في الأوضاع السياسية في دمشق، وحال بين عماد الدين زنكي وبين تحقيق أهدافه؟ الواقع: أنه ما إن غادرت زمرد خاتون دمشق حتى فقدت مكانتها السياسية العالية التي كانت تتمتع بها، حيث غدت الكلمة الأولى لابنها محمود، وحاشيته(2).
وشكَّلت سنة (533 هـ/1139 م) نقطة تحول هام في تاريخ دمشق، فقد هُوجمت هذه المدينة من اتجاهين متباعدين، فقد هاجمها الصليبيون في بيت المقدس من الجنوب، في حين هاجمها عماد الدين زنكي من الشمال، ولم يدرك الدمشقيون أيَّ الخطرين كان أشدَّ على وضع مدينتهم، إلا أن الجنوبية، شهدت هدوءاً يكاد يكون تاماً بعد حملة عام 523 هـ/1129 م، ثم تحقق السلام بين الجانبين في عام 528 هـ/1134 م والذي كان من الممكن أن يتجدَّد.
أما سياسة عماد الدين زنكي تجاه دمشق، فقد اختلفت كلياً، فإنه بوصفه المدافع الأول عن المسلمين فقد رأى توحيد صفوفهم تحت رايته، ولكن دمشق وقفت عقبة أمام تحقيق ذلك، فكان عليه تذليلها. وشهدت دمشق خلال (شهر شوال/شهر حزيران) تطوُّرات سياسية متسارعة أدَّت إلى مقتل شهاب الدين محمود على أيدي رجاله، وتنصيب أخ له غير شقيق هو جمال الدين محمد صاحب بعلبك. والراجح أن معين الدين أنر كان وراء هذه الأحداث بهدف السيطرة على الحاكم الجديد، والتفرُّد باسمه بالسلطة الفعلية.
وفعلاً حقق أنر هدفه بعد أن فوَّض إليه الأتابك أمور المدينة، وأقطعه بعلبك(3). وهكذا أدّت تلك التطورات السياسية إلى ازدياد نفوذ أنر مما حمل ابن الأثير على وصفه بأنه صار هو الجملة والتفصيل(4)، ولم تكن هذه التطورات في صالح عماد الدين زنكي، كما عزَّ على زمرد خاتون التي كانت تقيم في حلب أن يُقتل ابنها، ويحلَّ محله في حكم دمشق ابن ضرتها، فأرسلت إلى عماد الدين زنكي ـ وكان في الموصل ـ تستدعيه طالبة الثأر لولدها والسيطرة على دمشق(5).
كما أنَّ الأمور لم تستتب للحكَّام الجدد بسهولة؛ إذ كان للأتابك جمال الدين محمد أخٌ يدعى بهرام شاه، عزَّ عليه أن يتجاهله أنر بعد مقتل شهاب الدين محمود، فلجأ إلى حلب، ومنها سار إلى الموصل، طالباً مساعدة عماد الدين زنكي(6)، وبذلك تهيأت لعماد الدين زنكي فرصةٌ أخرى للتدخل في شؤون دمشق، فأعدَّ جيشاً خرج على رأسه في (شهر ذي القعدة عام 533 هـ/شهر تموز عام 1139 م) قاصداً دمشق لاقتحامها قبل أن تستتب الأمور فيها، ويبدو: أنه أدرك: أنَّ مهاجمة دمشق ليس بالأمر الهين، هي المدينة التي أخلص أهلها لبيت بوري؛ إذ لم يكد سكانها يسمعون بأخبار الزحف باتجاه مدينتهم حتى صمَّموا على الدفاع، والمقاومة انطلاقاً من هذا الواقع. ووضع خطة عسكرية من شقين:
ـ تنفيذ حصار شديد على دمشق وعزلها عن بقية ممتلكاتها.
ـ تكوين جبهة مناهضة لحكامها(7).
وتنفيذاً للشق الأول هاجم بعلبك، التي كانت إقطاعاً لأنر، ودخلها في شهر صفر عام 534 هـ/شهر تشرين الأول عام 1139 م ووضع يده عليها(8)، والواضح: أنَّ ضمَّ بعلبك في هذه الآونة، وحمص، وحماة، وبانياس، والمجدل من قبل هيَّأ له تحقيق الشق الأول من خطته بعزل دمشق، ومنع حكامها من الاتصال ببقية أجزاء الإمارة لطلب المساعدة العسكرية والاقتصادية، الأمر الذي سيضعف من مقاومتها إلى حدٍّ كبير(9).
وتنفيذاً للشق الثاني قام بجهود سياسية لتقوية موقفه، فراسل رضوان بن الولخشي الوزير الفاطمي، الذي كان في طريقه إلى دمشق هرباً من ثورة الجند عليه وأغراه بالانضمام إليه، وفعلاً استجاب الوزير الفاطمي، ومال إلى مساندته(10).
ويبدو أن أنر أدرك خطورة هذا التحالف على وضعه الداخلي، فسعى لإحباطه وأرسل أسامة بن منقذ إلى رضوان ليقنعه بالعدول عن هذا التحالف، وبذل له من الأموال ما أغراه(11). وظلَّ عماد الدين زنكي قابعاً في بعلبك حتى (شهر ربيع الأول عام 534 هـ/شهر تشرين الثاني عام 1139 م) أعاد خلالها تنظيم أمورها الإدارية وعين عليها نجم الدين أيوب، ثم زحف نحو دمشق، وعسكر في سهل البقاع، ورأى قبل أن يهاجمها استقطاب الأتابك جمال الدين لتسليمه المدينة مقابل منحه حمص، وبعلبك، إلا أن هذا الأخير رفض هذا العرض، وسانده رجال دولته وعلى رأسهم معين الدين أنر(12)، عندئذ اضطر إلى التقدم نحو المدينة، وفرض الحصار عليها، ودارت عدة اشتباكات بين الطرفين لم تكن حاسمة إنما جاءت لمصلحة عماد الدين زنكي؛ الذي أوقف القتال مدة عشرة أيام لإعطاء المحاصرين فرصة أخرى للتسليم(13).
ويبدو: أن جمال الدين محمد اقتنع أخيراً بعدم جدوى المقاومة، وضرورة حقن الدماء، إلا أنه جوبه بمعارضة أنر، فوجد نفسه مضطراً لاستئناف القتال(14). وفي شهر شعبان عام 534 هـ/شهر اذار عام 1140 م توفي جمال الدين محمد، مما أتاح لعماد الدين زنكي في ظل النزاع بين الورثة حول الفوز بحكم دمشق فرصة مؤاتية لتوجيه ضربة حاسمة ضد المدينة، إلا أن أنر أسرع بتعيين مجير الدين أبق بن محمد أميراً على دمشق، فاضطر عماد الدين زنكي، الذي ضعفت نفسه، وضاق صدره إلى التراجع قليلاً بعدما رأى إصرار الدمشقيين على المقاومة، لكنَّ حصاره استمرَّ أملاً في انهيار الحالة الاقتصادية في دمشق، ومن استسلام المدينة(15).
مراجع الحلقة الرابعة والخمسون:
( ) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل ص 122.
(2) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 122.
(3) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 123.
(4) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل ص 123.
(5) زبدة حلب (2/462) تاريخ الزنكيين ص 123.
(6) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 123.
(7) المصدر نفسه ص 124.
(8) المصدر نفسه ص 124.
(9) المصدر نفسه ص 124.
(0 ) الاعتبار ص 37 ـ 40 تاريخ الزنكيين في الموصل ص 124.
(1 ) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 124.
(2 ) المصدر نفسه ص 125.
(3 ) المصدر نفسه ص 125.
(4 ) المصدر نفسه ص 125.
(5 ) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 125 نقلاً عن الكامل في التاريخ.
يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي