إبراهيم عليه السّلام ومكانته بين الأنبياء والمرسلين
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 20
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1443 ه/ يونيو 2022م
عرضَ القرآن الكريم موكبَ الإيمان الجليل يقوده ذلك الرهط من الرسل، من نوح إلى إبراهيم إلى خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويعرض السياق هذا الموكب ممتداً موصولاً وبخاصة منذ إبراهيم وبنيه من النبيين، ولا يراعي التسلسل التاريخي في هذا العرض، كما يُلاحظ في مواضع أخرى؛ لأن المقصود هنا هو الموكب بجملته، لا تسلسله التاريخي.
قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} ]الأنعام:83-90[.
وكانت التعقيبات على هذا الموكب المبارك في الذكر الحكيم في قوله تعالى:
- {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
- {وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}.
- {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
كلها تعقيبات تقرر إحسان هذا الموكب الكريم واصطفائه من الله وهدايته إلى الطريق المستقيم، وذكر هذا الرهط على هذا النحو، واستعراض هذا الموكب في هذه الصورة كلها تمهيد للتقريرات التي تليه:{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وهذا تقرير لينابيع الهدى في الأرض، فهدي الله للبشر يتمثل فيما جاءت به الرسل، وينحصر المستقين منه، والذي يجب اتباعه في هذا المصدر الواحد، الذي يُقرر الله سبحانه أنه هو هدى الله، وأنه هو الذي يهدي إليه من يختار من عباده.
ولو أن هؤلاء العباد المهديين حادوا عن توحيد الله، وتوحيد المصدر الذين يستمدون منه هداه، وأشركوا بالله في الاعتقاد أو العبادة أو التلقي، فإن مصيرهم أن يحبط عنهم عملهم: أي أن يذهب ضياعاً، ويهلك كما تهلك الدابّة التي ترعى نبتاً مسموماً، فتنتفخ ثم تموت وهذا هو الأصل اللغوي للحبوط.
وفي قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}، وهذا التقرير الثاني، فقرَّر في الأول مصدر الهدى وقصره على هدى الله الذي جاءت به الرسل، وقرّر في الثاني أن الرّسل الذين ذكرهم والذين أشار إليهم هم الذين آتاهم الله الكتاب والحكمة، والسلطان والنبوة.
إنَّ {الْحُكْمَ} يجيء بمعنى الحكمة كما يجيء بمعنى السلطان كذلك - وكلا المعنيين محتمل في الآية - فهؤلاء الرسل أنزل الله على بعضهم الكتاب كالتوراة مع موسى عليه السّلام، والزبور مع داوود عليه السّلام، والإنجيل مع عيسى عليه السّلام، وبعضهم آتاه الله الحكمة كداوود وسليمان عليهما السلام، وكلهم أوتي السلطان على معنى أن ما معه من الدين هو حكم الله، وأن الدين الذين جاؤوا به يحمل سلطان الله على النفوس وعلى الأمور، فما أرسل الله الرسل إلا ليطاعوا، وما أنزل الكتاب إلا ليحكم بين الناس بالقسط، كما جاء في الآيات الأخرى، وكلهم وأُوتي الحكمة وأُوتي النبوّة، وأولئك هم الذين وكلهم الله بدينه، يحملونه إلى الناس، ويقومون عليه ويؤمنون به ويحفظونه، فإذا كفر بالكتاب والحكمة والنبوّة مشركو العرب: {هَؤُلَاءِ}، فإن دين الله غنيّ عنهم وهؤلاء الرهط الكرام والمؤمنون بهم هم حسب هذا الدين. (1)
إنَّها حقيقة قديمة امتدت جذورها وتفرعت أغصانها، وموكب موصول تماسكت حلقاته، ودعوة واحدة حملها رسول بعد رسول وآمن بها، ويؤمن من يقسّم الله له الهداية، لما يعلمه من استحقاقه للهداية، وهو تقرير يسكب الطمأنينة في قلب المؤمن، وفي قلوب العصبة المسلمة أيّاً كان عددها، إن هذه العصبة ليست وحدها، ليست مقطوعة من شجرة، أنّها فرع منشقّ من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وحلقة في موكب جليل موصولة أسبابه بالله وهداه.
يبقى الإنسان المؤمن في أيّ أرض وفي أيّ جيل قوي وكبير، وكأنه الشجرة المتينة السّامقة الضاربة الجذور في أعماق الفطرة البشرية وفي أعماق التاريخ الإنساني، فهو عضوٌ في الموكب الكريم الموصول بالله وهداه منذ أقدم العصور.(2)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}، وهو التقرير الثالث، فهؤلاء الرهط الكرام الذين يقودون موكب الإيمان هم الذين هَداهم الله وهُداهم الذي جاءهم من عند الله فبه القدوة لرسول الله تعالى ومن آمن به، فهذا الهدي وحده هو الذي يسير عليه، وهذا الهدي وحده هو الذي يحتكم إليه، وهذا الهدي هو الذي يدعو إليه ويبشر به قائلاً لمن يدعوهم {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}، للعالمين: لا يختصُّ به قوم ولا جنس ولا قريب ولا بعيد، إنه هدى الله لتذكير البشر كافّة، ومن ثمَّ فلا أجر عليه يتقاضاه، وإنما أجره على الله .(3)
مراجع الحلقة العشرون:
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، (2/1144).
(2) المرجع نفسه، سيد قطب، (2/1144).
(3) المرجع نفسه، (2/1145).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي