تأملات في الآية الكريمة {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 78
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1444ه / سبتمبر 2022م
1-{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ}:
هذا دعاء لأبيه بالأمن والسلامة من أي سوء، فإبراهيم - عليه السّلام - يرجو لأبيه الأمن والسلامة في غيبته، فهو يريد أيضاً أن يطمئن أباه بأنه سيسلم من خطابه له بالسب والشتم وبما يكره.(1)
والسلام أيضاً سلام متاركة موادعة وتوديع، ومقابلة للسيئة - وهي نفور أبيه ووعيده وإعراضه- بالحسنة، وهي الدعاء له والاستغفار وتوديعه وتركه، ويتجلى الإيجاز البديع في سلام إبراهيم - عليه السّلام - مع قوة المعنى والمبالغة فيه، فقد جاء جملة اسمية تدلُّ على ثبوت السلام ودوامه، ونكّر المبتدأ {سَلَامٌ} للإشعار بتمام السلام وكماله من خلال الدعاء له، كأنه قيل: سلام كامل تامّ عليك، وهذا ما سوّغ الابتداء به وهو نكرة.(2)
وفي قوله: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} تلمح قمة الحلم الذي وصل إليه إبراهيم عليه السّلام،(3) وهذا هو شأن الداعية وصفته المميزة إذا أُسيء إليه قابل الحسنة وأعرض عمّن جهل عليه اتباعاً لأمر ربه {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} ]المؤمنون:96[.
ونذكر في هذا المقام كلاماً للشيخ عبد الرحمن السعدي، حيث يقول: وقد أمرنا الله باتباع ملّة إبراهيم - عليه السّلام -، فمن اتباع ملّته سلوك طريقه في الدعوة إلى الله بطريق الحكمة والعلم، واللين والسهولة، والانتقال من رتبة إلى رتبة، والصبر على ذلك، وعدم السآمة منه، والصبر على ما ينال الداعي من أذى الخلق، بالقول والفعل، ومقابلة ذلك، بالصفح، والعفو، بل بالإحسان القولي والفعلي.(4)
2-{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}:
لم يكتف إبراهيم - عليه السّلام - بالدعاء لأبيه وبتحيته وهو يفارقه، بل وعده أيضاً أن يستغفر له ربّه تعالى بالدعاء بأن يوفق للهداية والإيمان والتوبة، ومعنى الاستغفار للكافر: استدعاء التوفيق لما يوجبه مغفرة الله سبحانه وتعالى، وهذا يجوز قبل تبين تحتم موته على الكفر.(5)
هذا وقد استغفر إبراهيم لأبيه آزر كما وعده، جاء ذلك من سورة الشعراء {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} ]الشعراء:86[، أي: يا ربّ اصفح عن أبي آزر واهده إلى الإيمان، فإنه قد ضلَّ عن سبيل الهدى، فكان من الكافرين.(6)
لقد استغفر إبراهيم - عليه السّلام - لأبيه أثناء حياته راجياً أن يؤمن بالله، ولكنه لما مات كافراً تبرأ منه - عليه السّلام - ولم يستغفر له، وما فعله إبراهيم - عليه السّلام - أمر صحيح، إذ لو صدر من أي شخص لكان حسناً، فكيف لا يتوقع صدور الأحسن منه - عليه السّلام - وقد نصَّ القرآن الكريم على ذلك، قال تعالى: { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} ]التوبة:114[، فلا ذنب ولا إثم في ذلك، وإنما طلب من الله تعالى إنجاز الوعد الموعود وذلك بتوفيقه للإيمان، فيكون طلب استجابة الدعاء مشروطاً بالإيمان.(7)
ويقول القاضي البيضاوي في تفسير الآية: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاه}: وعدها إبراهيم أباه بقوله: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ} أي: لأطلبن مغفرتك بالتوفيق بالإيمان، فإنه يجبّ ما قبله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} بأن مات على الكفر أو أوحي فيه بأنه لن يؤمن: {تَبَرَّأَ مِنْهُ} أي قطع استغفاره.(8)
فالقاضي البيضاوي جمع بين أمرين، أن إبراهيم ظلَّ يستغفر لأبيه إلى أن مات مصرّاً على كفره، فقطع حينئذ الاستغفار وتبرأ منه؛ لأنه مات مُصرّاً، أو أن الله أوحى إليه أنه لن يؤمن فقطع الاستغفار.(9)
فالاستغفار الذي وعد إبراهيم أباه هو طلب الهداية له والتوبة، ولهذا قال في دعائه: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} ]الشعراء:86[، وهو جائز ما دام المستغفر له في الحياة؛ لأنه يُرجى منه الإيمان، أما إذا مات على الكفر، فلا يجوز الاستغفار له بمعنى طلب المغفرة له.(10)
قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)} ]التوبة:113-114[.
وفي قوله تعالى: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} جاءت الآية دليلاً على أن الوعد والإنجاز كانا قبل التبيّن وأكّد الوعد بالسين؛ وذلك لأنّها تفيد الوعد بحصول الفعل، فدخولها على ما يفيد الوعد أو الوعيد مقتضى لتوكيده وتثبيت معناه،(11) كما أن الوعد بالسين يدلّ على تحقق أو قرب وقوعه بخلاف "سوف"، وقدم الجار والمجرور "لك" على المفعول به "ربي" للمسارعة إلى إعلام أبيه بأن الاستغفار سيكون خاصاً له، وأنه من أجله هو، وأوثر التعبير بوصف الربوبية، لما فيها من معنى العناية والرعاية واللطف والتربية بإبراهيم - عليه السّلام -، وهذا من دواعي قبول دعائه لأبيه واستغفاره له.
وأضيف هذا الوصف إلى ضمير المتكلم للتشريف، وللإشعار بأن الربّ الذي يستحق العبادة والدعاء والالتجاء إليه هو رب إبراهيم - عليه السّلام - وليس ربُّ آزر الذي لا ينفع ولا يضر، وجاء قول {رَبِّي} الدالّة على الوحدانية في مقابلة قول أبيه: {آَلِهَتِي} الدالّ على الشرك.(12)
3-{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}:
أي: لطيفاً، رحيماً، باراً، يبالغ في إكرامي إكراماً يحقق سعادتي.(13)
وقد قدّم الجار والمجرور {بِي} على خبر كان {حَفِيًّا}؛ للمسارعة ببيان أن كرم الله تعالى ملازم له، والمعنى: سأطلب لك المغفرة من الله، فإنه كثير البرّ واللطف بي، يجيبني إذا دعوته، ولفظ "حفيّا" صيغة مبالغة على وزن فعيل (حفيّ)، وهي تدل على المبالغة في بيان لطف الله تعالى بإبراهيم وكرمه به ومكانته عند سبحانه.(14)
وجاءت "كان" في وسط الكلام؛ لتأكيده الحفاوة وبيان تحقق وقوعها، فالله عزّ وجل حفيّ به من قبل ذلك، وليست حفاوته به أمراً جديداً، إنما هي واقعة في الماضي ومستمرة في المستقبل.(15)
مراجع الحلقة الثامنة والسبعون:
(1) تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص201.
(2) خصائص النظم القرآني في قصة إبراهيم عليه السلام، د. الشحات محمد أبو ستيت، ص42.
(3) القصص القرآني بين الآباء والأبناء، عماد زهير حافظ، ص84.
(4) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1002.
(5) تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص201.
(6) من لطائف التعبير القرآني حول سير الأنبياء والمرسلين، محمد فؤاد سندي، ص126.
(7) التوبة في ضوء القرآن، آمال صالح نصير، دار الأندلس الخضراء، ص224.
(8) أنوار التنزيل وأسرار التأويل (تفسير البيضاوي)،ص299.
(9) التوبة في ضوء القرآن، آمال صالح نصير، ص224.
(10) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (5/184).
(11) تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص202.
(12) المرجع نفسه، ص203.
(13) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (15/9105).
(14) تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص204.
(15) خصائص النظم القرآني في قصة إبراهيم عليه السلام، د. الشحات محمد أبو ستيت، ص44.
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي