تأملات في الآية الكريمة {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}:
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 77
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1444ه / سبتمبر 2022م
هذا وعيد وتحذير لإبراهيم، والمعنى: لئن لم تنته عما أنت عليه من الدعوة إلى ترك عبادة الأصنام لأرجمنّك، والوعيد شديد كما أن الإنكار كان شديداً، فمجيء التهديد على سبيل الشرط للإيذان بتحقق وقوع الرجم وسرعته، أي: وقوع الأمر المهدّد به بمجرد وقوع الشرط وأكّد الشرط بالقسم، كما أكّد الجواب باللام ونون التوكيد الثقيلة، وقال {تَنْتَهِ} للتعميم والشمول فيما ينتهي عنه، فالأب يريد من ابنه أن يقلع تماماً عن أي فعل أو قول يمس آلهته، وفي تهديد الأب لابنه بالرجم في قوله: {لَأَرْجُمَنَّكَ} ما يدلّ على قسوته وغلظة قلبه؛ لأنَّ الرجم (الضرب بالحجارة حتى الموت) هو تهديد بالقتل بأقسى أنواعه، وعليه يكون لفظ الرجم مستخدماً في معناه الحقيقي، وقد يُراد بالرجم الشتم والذّم، وحينئذ يكون في اللفظ استعارة تبعية.
ولا مانع من إرادة المعنيّين؛ لأنه لم يبيّن أداة الرجم، ولا نوعه، وهل هو رجم بالحجارة أم رجم باللسان، هكذا كان تهديد الرجل، وقد لمست مدى شدته وعنفه، واشتمل ردّ الأب على أمر جاء في قوله: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} أي: تجنّبني ولا تكلّمني وغيّب وجهك عني زماناً طويلاً، والأمر في الآية جاء معطوفاً على محذوف، والتقدير: احذرني واهجرني، وإنما أمر أبو إبراهيم ابنه بهجرانه، ولم يخبره بأنه هو يهجره، فلم يقل له: وأهجرك ملياً؛ ليدلَّ على أن هذا الهجران جاء في معنى الطرد والخلع إشعاراً بتحقيره.(1)
والأمر شديد مثل الإنكار والتهديد، فالأب فقد كل مشاعر الأبوة، وتمزقت في نفسه كل روابط البنوة التي فطرت عليها النفوس، وجبلت عليها القلوب حيث دعا ابنه إلى أن يقاطعه ويهجره ولا يهتم بأمره ولا يجالسه، ولا يقاربه، لذا عبّر بالهجر بدلاً من البعد أو الترك؛ لأن مُراده شدّة المفارقة وتمام القطيعة، كما أن مادة "هجر" تدلُّ في المعاجم اللغوية على القطيعة والقطع، ومنها: الهُجر بضم الهاء وسكون الجيم، وهو: الإفحاش في المنطق، ويُقال: رماه بالهاجرات، أي: بالفضائح.(2)
ولم يحدد الهجر بزمان معلوم، ولكن عبر عن زمانه بلفظ {مَلِيًّا}، وهو الزمان البعيد، وهذا مأخوذ من قولهم: أتى على فلان ملاوة من الدهر: أي دهر طويل.
إذن: طلب الأب من ابنه أن يهجره هجراً دائماً يستغرق زماناً طويلاً لا حدود له ولا نهاية، هذا هو ردّ الأب الكافر جاء في غاية القسوة والجفاء والغلظة، فماذا كان ردُّ إبراهيم عليه؟ هل بادل أباه غلظة بغلظة؟ وقسوة بقسوة؟ كلّا، إن جفاء الأب لم يزدّه إلا حلماً وليناً وتواضعاً،(3) اقرأ معي جوابه في الآيات القادمة.
مراجع الحلقة السابعة والسبعون:
(1) تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، (16/120).
(2) معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مادة (هجر).
(3) تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص200.
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي