الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

تأملات في الأية الكريمة {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 79

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

صفر 1444ه / سبتمبر 2022م

استجاب إبراهيم - عليه السّلام - لأمر أبيه له بأن يهجره طويلاً، فأخبره بأنه سيبتعد عنه وعن قومه، بعد أن قام بواجب الدعوة والموعظة، وبعد أن أبرأ ذمته منهم بإقامة الحجة على أبيه وقومه، ونلتمس في هذا الخبر أدب إبراهيم- عليه السّلام - الجمّ كعادته دائماً وحسن تواضعه، فهو لم يخصّ أباه بالاعتزال، بل عمم الاعتزاز وجعله شاملاً لأبيه وقومه، وفي هذا رفق بأبيه، فإبراهيم لم يطلب من أبيه أن يعتزله، وإنما جعل الاعتزال من جهته هو، في حين أن أباه واجهه مباشرة بأمر تركه والابتعاد عنه، وخصّه بذلك ليكون الأمر أشدّ عليه وأصعب على نفسه، وفي اعتزال إبراهيم - عليه السّلام - إعلان بهجر أرض الكفر، واعتزال الكافرين.

وقد استخدم إبراهيم - عليه السّلام - في التعبير عن آلهتهم الاسم الموصول "ما" لغير العاقل، للدلالة على عدم أهليتها للعبادة بفقدانها العقل والحكمة والتدبير وغيرها من الصفات التي تختص العقلاء.(1)

وقال: {وَمَا تَدْعُونَ} ولم يقل: "وآلهتكم" للإشارة إلى أن من شرط المعبود أن يكون أهلاً للمناداة والدعوة في الشدائد.(2)

وفي التعبير عنها بغير العاقل أيضاً تسفيه لهم أي: لعابديها، وتحقير لتلك الآلهة المزعومة، ويسلب عنها صفة الألوهية التي يزعمونها لها، ويعبدونها ويعظّمونها، بسببها كان كفره بتلك الآلهة المزعومة، وأنها من نفسه بلغت مبلغاً عظيماً في الحقارة والتهكم والكره لدرجة أنه لا يريد أن يذكرها بلسانه، وفي التعبير بالموصول أيضاً، إيماء إلى وجه بناء الخبر وعلة اعتزاله أباهم وأصنامهم بأن تلك الأصنام تعبد من دون الله، وأن القوم يعبدونها، فذلك وجه اعتزاله إياهم وأصنامهم.(3)

ووصف الأصنام بـأنها {مِنْ دُونِ اللَّهِ} زيادة في النكير على من يترك عبادة الله الجامع لصفات الكمال سبحانه وتعالى، ويعبد حجارة صماء لا تملك من أمرها شيئاً ولا تنفع عابدها.

تأمل الأدب الإنساني الرفيع من إبراهيم - عليه السّلام - فقد قابل قول أبيه: {لَأَرْجُمَنَّكَ} بما فيه من قسوة وفظاظة بقوله: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} بما فيه من دعاء له بالأمن والسلامة، ووعده بالاستغفار تقديراً لحقّ الأبوة، وقابل أمره بهجره زماناً ممتداً بإخباره، بامتثاله لأمره واعتزاله له ولقومه وما يعبدون، ولم يقيّد اعتزاله بزمن، بل أشار إلى أنه معتزل لهم ما داموا على هذا الدين.(4)

ومما ورد في ردِّ إبراهيم - عليه السلّام - على أبيه قوله: {وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} ]مريم:48[، وقال: {وَأَدْعُو رَبِّي} ولم يقل: وأدعو الله، للإشعار بالتغاير بين عبادتهم وعبادته.(5)

وأُوثر التعبير بلفظ "ربّ" المضاف إلى ضميره للتعرض بأن ربّه هو المستحق للعبادة والخضوع؛ لأنه يسمع من ناجاه، ويجيب من رجاه بخلاف آلهتهم المزعومة التي لا تسمع نداءً ولا تجيب رجاءً، فكأنه يقول لهم: إنَّ ربي هو المستحق للعبادة لا آلهتكم، وفي إضافة لفظ "ربّ" إلى ضمير نفسه أيضاً: إشارة إلى انفراد من بينهم بعبادة الله تعالى، فهو ربّه وحده من بينهم، فالإضافة هنا تفيد معنى القصر الإضافي مع ما تضمنه الإضافة من الاعتزاز بربوبية الله إياه والتشريف له بذلك.(6)

وقد علَّلَ الخليل إبراهيم - عليه السّلام - عبادته لربّه ودعاءه له بــــ{ عَسَى} في قوله: {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}، فغاية الذي يرجوه إبراهيم - عليه السّلام - هو مجرّد تجنبه الشقاوة، وتصدير الكلام بــــ{ عَسَى} الدالة على الرجاء فيه من إظهار تواضعه - عليه السّلام - وحسن أدبه مع ربه، وهضم النفس على ما لحق فيه، فهو لم يجزم بإجابة دعوته وقبول عبادته تعظيماً وإجلالاً له، وللتنبيه على أن الإجابة والإثابة تفضل من الله تعالى، وأنهما غير واجبين عليه سبحانه، وأن ملاك الأمر خاتمته، وهو عيب.(7)

وفي قول إبراهيم عليه السّلام السابق - فيما حكاه القرآن عنه- تعريض بشقاوة قومه وأبيه في عبادتهم أصناماً يجلبون لهم القرابين، ويرهقون أنفسهم في عبادتها وخدمتها، وهي لا تقدّم لهم شيئاً ولا تمنحهم ولا تمنعهم شيئاً، بل ستكون وقوداً للنار يوم القيامة، ليُعذّبوا بها وستكون سبباً في خسرانهم وشقائهم في الدنيا والآخرة، وكان ظاهر السياق أن يُقال: وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعائه شقياً، ولكن أظهر لفظ ربي في موضع الإضمار: للإشعار بعلة الحكم، الذي هو عدم الشقاء وللتعبد والتشرف بذكره.(8)

وقد نفّذ إبراهيم - عليه السّلام - ما عزم عليه، وارتحل من بلاد الكفر وهاجر في سبيل الله قاصداً الشام فراراً بدينه، بعد أن أدى حق التبليغ والنصح ومواجهة الكفر بلسانه ويده وبقلبه.(9)

وكان المهاجر الأول من أجل دينه وعقيدته وتوحيد الله عزّ وجل، هاجر إلى الله من أجل الله، وفي سبيل الله عزّ وجل، وخرج معه زوجته وابن أخيه لوط - عليهما السّلام - بعد أن ألقاه قومه في النار ونجّاه الله منها وجعلها برداً وسلاماً عليه، وهو يقول: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} ]الصافات:99[، وهداه الله سبحانه إلى الأرض المباركة في بلاد الشام {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} ]الأنبياء:71[.(10)

لقد آثر إبراهيم - عليه السّلام - غربة الوطن واعتزال أبيه وقومه قربة لله تعالى ومحبة فيه، وضرب لنا مثلاً عملياً في سنة الله في خلقه؛ من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فكانت المكافآت الربانية، فبعد المحن منح ربانية، مصحوبة بالبركات والرحمات الإلهية.

مراجع الحلقة التاسعة والسبعون:

(1) تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص205.

(2) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، (12/208).

(3) تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، (16/122).

(4) تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص206.

(5) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الآلوسي، (15/148).

(6) تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، (16/123).

(7) تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص207.

(8) خصائص النظم القرآني في قصة إبراهيم عليه السلام، د. الشحات محمد أبو ستيت، ص47.

(9) تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص207.

(10) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (5/186).

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/books/16228097650.pdf

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022