تأملات في الآية الكريمة: {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 88
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1444ه / سبتمبر 2022م
جاءت {بَل} للإضراب والردّ، وإبطال عبادتهم وبيان أن التماثيل ليست أرباباً(1)، و{بَل} تُضرب عما قبلها وتثبت الحكم لما بعدها(2).
وجمعت إجابة إبراهيم - عليه السّلام - بين الدليل العقلي والدليل السمعي، فالدليل العقلي: فإنه قد علم كل أحد حتى هؤلاء الذين جادهم إبراهيم أن الله وحده الخالق لجميع المخلوقات من بني آدم والملائكة والجن، والبهائم والسماوات والأرض، المدبّر لهن بجميع أنواع التدبير، فيكون كل مخلوق مفطوراً مدبراً متصرفاً فيه، ودخل في ذلك جميع ما عبد من دون الله، فهل يليقُ عند من له أدنى مسكة من عقل وتمييز أن يعبد مخلوقاً متصرفاً فيه، لا يملك نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر؟(3)
إنَّ إبراهيم - عليه السّلام - يقول لقومه: الله تعالى خالق السماوات والأرض وخالقكم من العدم على غير مثال سابق، هو ربكم شئتم أم أبيتم بدليل العقل والفطرة والمنطق فهو ربّ واحد، ربّ الناس وربّ السماوات والأرض، ربوبيته ناشئة عن كونه الخالق، فهما صفتان لا تنفكان: {بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ}، فهذه هي العقيدة المستقيمة الناصعة لا كما يعتقد المشركون أن الآلهة أرباب، في الوقت الذي يقرّون أنّها لا تخلق، وأن الخالق هو الله، ثم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق شيئاً وهم يعلمون(4).
وأما الدليل السمعي، فهو المنقول عن الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن ما جاءوا به معصوم لا يغلط ولا يخبر بغير الحق، ومن أنواع هذا القسم شهادة أحد من الرسل على ذلك، فلهذا قال إبراهيم: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ} أي: أنَّ الله وحده المعبود وأن عبادة ما سواه باطل {مِنَ الشَّاهِدِينَ} وأي شهادة بعد شهادة الله أعلى من شهادة الرسل؟ خصوصاً أولي العزم منهم، خصوصاً خليل الرحمن(5).
وفي قوله تعالى: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} الذين يشهدون أن ربّكم هو ربّ السماوات والأرض، فلا إله غيره ولا ربّ سواه عزّ وجل، وهم الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ]آل عمران:18[(6).
والشاهد هو الذي اهتدى إلى الحقّ، كأنه رأى العين، واهتدى إلى الدليل على هذا الحق، فقال: أنا شاهد على أن ربّكم ربّ السماوات والأرض، ومعي الدليل على هذه الحقيقة(7)، وكلمات إبراهيم تدلُّ على ثقته الكبيرة العظيمة بكلمة التوحيد التي يدعو إليها، إنه واثق وثوق الذي يشهد على واقع لا شكَّ فيه: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}.
ولم يشهد إبراهيم - عليه السّلام - خلق السماوات والأرض، ولم يشهد خلق نفسه ولا قومه، ولكن الأمر من الوضوح والثبوت إلى أن يشهد المؤمنون عليه واثقين، إن كل ما في الكون لينطق بوحدة الخالق المدبر، وأن كل ما في كيان الإنسان؛ ليهتف به إلى الإقرار بوحدانية الخالق المدبّر، وبوحدة الناموس الذي يدير الكون ويصرفه(8).
مراجع الحلقة الثامنة والثمانون:
( ) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (9/4883).
(2) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (15/9579).
(3) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1072.
(4) في ظلال القرآن، سيد قطب، (4/2385).
(5) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1072.
(6) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (5/363).
(7) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (15/9578).
(8) في ظلال القرآن، سيد قطب، (4/2386).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي