الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

تأملات في الآية الكريمة: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 108

بقلم: د. علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1444ه / أكتوبر 2022م

قال الألوسي: أضربوا على أن يكون لهم سمع أو نفع أو ضرّ اعترافاً بما لا سبيل لهم إلى إنكاره، واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد، فكأنهم قالوا: لا يسمعون ولا ينفعوننا ولا يضرّون، وإنما وجدنا آباءنا يفعلون مثل فعلنا، ويعبدونهم مثل عبادتنا فاقتدينا بهم(1).

وقال الرازي: وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد ووجوب التمسك بالاستدلال، إذ لو قبلنا الأمر فمدحنا التقليد وذممنا الاستدلال؛ لكان ذلك مدحاً لطريقة الكفار التي ذمها الله تعالى وذماً لطريقة إبراهيم التي مدحها الله تعالى، فأجابهم إبراهيم - عليه السّلام - بقوله: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)} ]الشعراء:75-76[، لقد أراد به أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديماً أو حديثاً، ولا بأن يكون في فاعلية كثرة أو قلة(2).

وبين طيات هذا الجواب {بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} تكمن الهزيمة النكراء، فإنّ وجود "بل" في الجواب يعني أنهم ضمناً قالوا: لا قبل بل، فقد تقدم سؤال أضربوا عنه ونفوا ما تضمنه؛ لأن إبراهيم - عليه السّلام - قال: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)} ]الشعراء:72-73[، فقالوا مضربين عن هذه الأشياء التي وبخوا عليها لعبادتهم ما لا يسمع ولا ينفع ولا يضرّ وما يعلمون عنه أنه جماد لا حياة فيه ولا نفع ولا ضرر عنده وكأنهم قالوا: لا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، ولأن السؤال هنا يقتضي في جوابهم أن ينفوا ما نفاه إبراهيم - عليه السّلام - أضربوا عنه إضراب من ينفي الأول ويثبت الثاني، فاختصاص المكان بــــــ "بل" لهذا(3).

وهذا يعني أنهم اعترفوا أن آلهتهم لا تسمع ولا تنفع ولا تضرّ، ثم يُبدون حقيقة أمر معتقدهم، في أنهم يتبعون آباءهم اتباعاً أعمى من غير تفكير ولا تدبّر ولا فهم ولا فقه ولا وعي، وكان ذلك واضحاً بإجابتهم الأخيرة والتي عبّرت عن موقفهم المتكرر، وذلك حين قالوا: {بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}.

وكم من هالك في الدنيا والآخرة لم يكن منه إلا اتباع معتقد الآباء والأجداد من غير تفكير ولا تدبّر ولا وعي ولا فقه، وهذه هي العصبية بعينها التي ترفضها ملة إبراهيم - عليه السّلام – وقد حذر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من طاعة المخلوق في معصية الخالق عندما قال: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق(4).

إنَّ طاعة الآباء وأُولي الأمر هي واجبة على المسلم، ولكنّها مقيّدة بهذا الشرط الذي جاء في هذا الحديث، كما أن القرآن الكريم بيّن لنا أن أقواماً قد خسروا الآخرة؛ لأنهم أصرّوا على اتباع آباءهم الذين لا يفقهون ولا يعلمون ولا يهتدون، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} ]المائدة:104[، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} ]الزخرف:23[.

وعند هذا المفترق جاء دور إبراهيم - عليه السّلام - وهم ينتظرون منه مزيداً من النقاش والمراء والجدال، ولكنه يفاجئهم بالموقف الحازم في كل مرة، فيما أنهم قد حزموا أمرهم وأصروا على أنهم مستمرون باتباع آبائهم، فنبيّ الله إبراهيم - عليه السّلام - ومن باب أولى أن يكون موقفه ثابتاً وقوياً؛ لأنه صاحب الحق والحق أحق أن يُتبع ولصاحب الحق مقال(5).

مراجع الحلقة الثامنة بعد المائة:

(1) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الآلوسي، (19/94).

(2) التفسير الكبير مفاتيح الغيب (تفسير الرازي)، (24/143).

(3) درة التنزيل وغرة التأويل، الخطيب الإسكافي، جامعة أم القرى، السعودية، ط1، 1422ه، 2001م، (1/904).

(4) المعجم الكبير، الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط2، د.ت، رقم (381).

(5) ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص38.

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/books/16228097650.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022