الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

تأملات في الآيات الكريمة: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (*) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (*) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (*)}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 109

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1444ه / أكتوبر 2022م

 

وتمثل جواب إبراهيم - عليه السّلام - بجملة من الكلمات في غاية الجمال والروعة والإتقان، وهي مستقاة تماماً من "لا إله إلا الله" ومبدأ النفي والإثبات هو ما عرف به السّياق القرآني وكلام الأنبياء عليهم السلام.

فقد أعلن الخليل إبراهيم - عليه السّلام - العداء والحرب على ما كانوا يعبدون هم وآباؤهم، واستخدم كلمة "الأقدمون"، حتى لا تنصرف أذهانهم لآبائهم الأدنون، بل شملت "الأقدمون" أي على جذور القضية إلى أين ما امتدّت في القدم في التاريخ، فحين قال إبراهيم - عليه السّلام - {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} فهذا شاهد النفي، ولقد نفى - عليه السّلام - ألوهيته تماماً، ثم عادت ألوهية الله سبحانه وتعالى باستخدام أداة الاستثناء "إلا" والتي تفيد الحصر، أي فقط هو ربّ العالمين الذي أعبده ولا يستحق أحد يُعبد سواه، وفي موضع آخر قال لهم الخليل إبراهيم - عليه السّلام -: {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ]الأنبياء:54[(1).

واختار إبراهيم - عليه السّلام - أن يبلغهم أنهم {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ لأنّها أجزل في العبارة، وأكثرها تعبيراً عن واقعم المرير وحالهم المزري، فالضلال هو ضد الهداية، والضلال هو الضياع، وكذلك الحيرة والعدول عن الصواب، كما ويأتي بمعنى الانفلات، وهكذا كان إبراهيم الخليل - عليه السّلام - يريد أن يقول لهم لستم بمهتدين وإنكم لضائعون، بعيدون عن الحق والصواب، ويتلبسكم الخطأ وحائرون ومنفلتون جامحون لا تضبطكم الضوابط الدينية، ولا الأخلاقية ولا حتى العرفية(2).

وعندما أثبت لهم إبراهيم الخليل - عليه السّلام - أن الألوهية لله سبحانه وتعالى الذي هو ربّ العالمين، بادروه بسؤال غريب لم يكن له معنى في سياق الحوار، وما هو إلا المراء وإضاعة الوقت، وهذا هو حال أهل الباطل عندما يتصارعون مع أهل الحق من أتباع ملة إبراهيم - عليه السّلام - فإنهم قالوا: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} ]الأنبياء:55[.

ثم باشر - عليه السّلام - بالتعريف بربِّ العالمين من غير التعرض لإجابة على سؤالهم الأخير، فأصحاب الرسائل السامية والمبادئ الأصيلة والقيم الكبيرة لا يلتفتون إلى الترّهات، ففي أي لعب يتكلمون، إنه يتكلم لهم عن التوحيد الذي هو أصل الأصول، والذي من أجله خلق الله سبحانه الإنسان وغير الإنسان، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ]الأنبياء:25[.

وقال إبراهيم - عليه السّلام -: {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ]الأنبياء:56[، فهذه شهادة إبراهيم لله في الكون بأن الله عزّ وجل خالق السماوات والأرض وما بينهما وخالق الإنسان، فخلق السماوات والأرض وكذلك الإنسان لا يمكن أن يدعيه صنم من الأصنام الحجرية ولا ملك طاغٍ متجبّر(3).

لقد تحدى إبراهيم - عليه السّلام - في هذه الآيات الكريمة الأصنام وعبّادها، وتحدّى عقيدتهم الفاسدة، ولم يخشَ في الله لومة لائم، لعل هذا التحدي يوقظ عقولهم المتبلّدة التي تصنع شيئاً يعد تقليداً أعمى للآخرين، ونوع الاستثناء هنا منقطع على رأي الجمهور، ويصبح المعنى {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي}، لكن رب العالمين ليس كذلك، بل هو وليّي في الدنيا والآخرة(4).

وأجاز البعض أن يكون الاستثناء متصلاً على اعتبار أن آباءهم الأقدمون قبل أن تفسد عقيدتهم وتنحرف، كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأصنام، فأعلمهم إبراهيم أنه تبرّأ مما يعبدون إلا الله، وعلى كلا النوعين يتبرّأ إبراهيم من الأصنام ويعلن ولاءه التام لله ربّ العالمين(5)، الذي ربوبيته للعالم تتضمن تصرّفه فيه، وتدبيره له ونفاذ أمره كل وقت فيه وكونه معه كلّ ساعة في شأن، يخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، ويعزّ ويذل ويصرّف الأمور بمشيئته وإرادته، وإنكار ذلك إنكار لربوبيته وإلهيته وملكه(6).

فـالله "ربّ العالمين" قيّوم قام بنفسه، وقام بإرادته كل شيء؛ فهو قائم على كل نفسه بخيرها وشرّها، قد استوى على عرشه، وتفرّد بتدبير ملكه، فالتدبير كلّه بيديه، ومصير الأمور كلّها إليه، فمراسيم التدبير نازلة من عنده على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع والخفض والرفع، والإحياء والإماتة، والتوبة والعزل والقبض والبسط، وكشف الكروب وإغاثة الملهوفين وإجابة المضطرين {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ]الرحمن:29[.

فالله سبحانه وتعالى لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا معقب لحكمه، ولا رادّ لأمره، ولا مبدّل لكلماته، تعرج الملائكة والرّوح إليه، وتعرض الأعمال - أول النهار وآخره- عليه، فيقدّر المقادير ويوقّت المواقيت، ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها، قائماً بتدبير ذلك كلّه وحظه ومصالحه(7).

وهكذا لم يمنع إبراهيم - عليه السّلام - أن أباه وأن قومه يعبدون ما يعبدون , أن يفارقهم بعقيدته , وأن يجاهر بعدائه لآلهتهم وعقيدتهم , هم وآباؤهم - وهم آباؤه - الأقدمون، وكذلك يعلم القرآن المؤمنين أن لا مجاملة في العقيدة لوالد ولا لقوم، وأن الرابطة الأولى هي رابطة العقيدة، وأن القيمة الأولى هي قيمة الإيمان، وأن ما عداه تبع له يكون حيث يكون، واستثنى إبراهيم - عليه السّلام - "ربّ العالمين" من عدائه لما يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}، فقد يكون من آبائهم الأقدمين من عبدَ الله قبل أن تفسد عقيدة القوم وتنحرف، وقد يكون من عباد الله، ولكن أشرك معه آلهة أخرى مدعاة، فهو الاحتياط إذاً في القول, والدقة الواعية في التعبير , الجديران بإبراهيم - عليه السلام - في مجال التحدث عن العقيدة وموضوعها الدقيق.

ثم يأخذ إبراهيم - عليه السلام - في صفة ربه "رب العالمين"، وصلته به في كل حال وفي كل حين، فنحس القربى الوثيقة , والصلة النديّة , والشعور بيد الله في كل حركة وسكون, وفي كل حاجة وغاية (8).

 

مراجع الحلقة التاسعة بعد المائة:

(1) المرجع نفسه، ص38.

(2) ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص38.

(3) درب إبراهيم عليه السلام، سعيد الشبلي، ص130.

(4) قصة إبراهيم في القرآن الكريم، إسحاق محمد حمدان البدارين، ص45.

(5) المرجع نفسه، ص45.

(6) الصواعق المرسلة في الردِّ على الجهمية والمعطلة، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (4/1223).

(7) الصلاة وحكم تاركها، ابن قيم الجوزية، ص.ص 169-170.

(8) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2602).

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/books/16228097650.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022