إشراقات قرآنية: سورة الناس
الحلقة 192 والأخيرة
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
29 صفر 1442 هــ / 27 سبتمبر 2021
* {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس}:
لم يستعذ من الوسواس، بل من شرِّه؛ لأن الوسواس يعرض للإنسان فيدفعه ولا يضره، كما في الحديث أنهم قالوا: يا رسولَ الله، إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدُنا أن يتكلم به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «وقد وجدتموه؟». قالوا: نعم. قال: «ذاك صريحُ الإيمان».
فلم يضرهم، ولم يكن شرًّا بالنسبة لهم؛ لأنه محض الإيمان، وهو كيد الشيطان الذي عجز عن التأثير عليهم به، فرد الله كيده إلى الوسوسة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «الحمدُ لله الذي ردَّ كيدَه إلى الوسوسة».
وفي هذا إشارة إلى أن مجرد حصول الوسواس في القلب ينبغي أَلَّا يُقلق الإنسان، وإنما يستعيذ بالله تعالى من شره، وكثير من الناس ليست مشكلتهم المرض ذاته، فقد يكونون في عافية منه، بل مشكلتهم الخوف من المرض، ولذلك كان من أفضل ما يُوصَى به المبتلون بالوسواس هو الإهمال.
والشيطان مثل الكلب إذا التفتَّ إليه لحقك وتحرَّش بك، وإذا أهملته وتركته نبح ثم تركك.
والوسواس مأخوذ من الوسوسة، كالزلزال والزلزلة، وهو الصوت الخفي، كما قال الأَعْشَى:
تَسْمعُ للحَلْي وَسَوْاسًا إذا انصـرفتْ * كما استعان بريح عِشـرِقٌ زَجِلُ
فالوسواس هنا: صوت الحَلي الخفيف إذا احتك بعضه ببعض، فهو ليس شيئًا ظاهرًا، ولكنه مؤثِّر في قلب الإنسان، فتسميته بـ«الوسواس» إشارة إلى ضعفه، وأن تأثيره السيئ ناتج عن الاستجابة والإصغاء.
و{الْخَنَّاس}: صيغة مبالغة، فهو يخنس، أي: يرجع، يقال: خنسَ، إذا اختفى، كما قال عز وجل: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15- 16]، قيل: هي النجوم التي تطلع وتغيب، فقوله: {الْخَنَّاس} يعني: أنه كلما ذُكر الله تعالى خنس وهرب.
فهو إذًا ضعيف في ذاته، سريع الاندحار كلما قاومه الإنسان واستعاذ بالله منه.
ولذا قال تعالى: {فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]، ونستطيع أن نقرنه مع قوله هنا: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس} وهذا معنًى لطيف.
ومن ضعفه أنه يوسوس في الصدور، ولم يقل: «في القلوب»، والقلوب في الصدور، ولكن لو كان الوسواس في القلوب لكانت المشكلة أكبر؛ لأن معنى ذلك أن القلب أصبح سكنًا للشيطان، وإنما الواقع أن الشيطان يوسوس في الصدور، ولا يلزم أن تصل وسوسته إلى القلب ولا أن تستقر فيه.
ولما ذكر تعالى آدم وحواء قال: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ} [طه: 120]، في حين أنه قال هنا: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس} وسوس إليه؛ لأنه كان في الجنة، وكأنه أرسل إليه الوسواس إرسالًا؛ ولذلك جاءت كلمة: «إلى» التي تدل على أنه كان بعيدًا عنه، وإنما يبعث إليه الوسواس بعثًا، أما هنا فقال: {فِي صُدُورِ النَّاس} للدلالة على أن الشيطان يلازم ابن آدم، ولذلك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطانَ يجري من الإنسان مجرَى الدم». يعني: في العروق.
فبدأت السورة بذكر ما يدل على ضعف الشيطان من كون أمره مجرد وسوسة، وأنها كثيرًا ما تندفع، فلا يكون منها شر على المؤمن، وأنها إن أحدثت أثرًا، فسَرْعان ما تخنس وتختفي، وأن ميدانها الصدر وليس القلب.
وثنَّت بما يدعو إلى الحذر منه، وأن أمره قد يتطور ويعظم بالاستجابة.
* {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}:
قد يُظن أن في نظم الآية إشكالًا؛ حيث قال سبحانه: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس}، ثم قال: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}، فبيَّن تعالى أن الشيطان {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس}، ثم قال: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}.
والجواب: يحتمل أن الناس مأخوذ من النوس، وهي الحركة، وعلى هذا فإن الجن يسمون: ناسًا، ويكون المعنى: يوسوس في صدور الناس من الجن والإنس.
هذا معنًى ضعيف، وفيه تكرار وتداخل.
وأجود منه أن يكون قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} ليس متعلِّقًا بقوله:
{يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس}، بل بقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ} أي: بالموسوِس نفسه، فقد يكون الوسواس من شياطين الجن، وهم إبليس وجنوده، أو من شياطين الإنس، وهذا أمر معروف، كما قال: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]، فالشيطان الجني يوسوس، والشيطان الإنسي- وهو قرين السوء- يوسوس، فكأنه قال: استعذ بالله من الوسواس الخناس، سواءً كان وسواسًا إنسيًّا أو جنيًّا، ممن يوسوس في صدور الناس.
وذكر بعضهم معنًى آخر غريبًا، وإن لم يكن مشهورًا عند المفسرين، وهو: أن {النَّاس} الأخيرة يقصد بها الناسي من النسيان، فحذفت الياء.
والمعنى: أن الشيطان يوسوس في صدور الناسي الذي يغفل؛ لأنه إنما يتسلَّط على مَن ينسى ذكر الله تعالى، كما قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ}.
وهذا ما يسميه البلاغيون بالجِناس التام بين «الناس» الذين هم البشر، وبين «الناس» الذي هو الشخص الذي ينسى.
وهنا تكون الاستعاذة للجن والإنس؛ لأن النسيان يكون منهما معًا، والشيطان يوسوس في صدور كل مَن ينسى من الجن والإنس.
وعلى هذا الوجه، فليس في السورة تقديم وتأخير، بل آخر آية فيها هي بيان وتفسير لما قبلها.
ولكن يضعِّف هذا القول: مجيء {صُدُورِ} بالجمع، ولو كان السياق: «في صدر الناس» لكان القول متَّجها، والله تعالى أعلم.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7