إشراقات قرآنية: سورة الناس
الحلقة 191
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
محرم 1442 هــ / سبتمبر 2021
* تسمية السورة:
لهذه السورة أسماء عديدة:
أشهرها: «سورة الناس».
وسمَّاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس}».
وهي مع «{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق}» تسميان بـ«المعوِّذتين»، كما تقدم في «سورة الفلق».
وتُسمَّيان مع {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} بـ«المعوِّذات»، كما تقدم في «سورة الفلق».
* عدد آياتها: ست آيات، وقيل: سبع.
* توقيت نزولها:
الخلاف فيها كالخلاف في «سورة الفلق»، والجمهور على أنها مكية، وهو القول الراجح عن ابن عباس رضي الله عنه.
وقيل: مدنية؛ باعتبار أنها نزلت بسبب قصة لَبِيد بن الأَعْصم اليهودي وسحره للنبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه السورة جوانب يحسن التنبه إليها مع «سورة الفلق»، ففي «سورة الفَلَق» علَّمنا سبحانه أن نستعيذ بـ«رب الفَلَق»، ولم يذكر إلا هذا الاسم له سبحانه وتعالى، ثم ذكر الاستعاذة من أربعة شرور، ومرجعها إلى ثلاثة؛ لأن الأمر الأول منها عام: {مِن شَرِّ مَا خَلَق}، ثم فصَّل ثلاثة أشياء: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَد * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد}.
أما في هذه السورة فنلاحظ العكس؛ حيث إنه أمر بالاستعاذة بثلاثة أسماء من أسمائه عز وجل، فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس مَلِكِ النَّاس إِلَهِ النَّاس}، ثم ذكر المستعاذ منه، وهو شيء واحد، وهو {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس}.
* {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِمَلِكِ النَّاسِإِلَهِ النَّاسِ}:
بين «الرب» و«الإله» فرق، فـ«الرب» هو: الخالق المالك المتصرِّف، أما «الإله» فهو المعبود.
أما سر ذكر «الملك» مع «الرب»، مع أن «الرب» يتضمن معنى «الملك»، فلعل ذلك لمعانٍ، منها:
1- أن الناس من عادتهم إذا أصابتهم نازلة أن يلجؤوا إلى أكابرهم وملوكهم، فيطلبون منهم الحماية، وأقصى ما يتمناه الإنسان في الدنيا إذا خاف من شيء أن يكون في حماية «المَلِك»؛ لتكون كل قوى الملك في خدمته وحفظه ووقايته.
فكان للتنصيص على اسم «المَلِك» معنًى مباشرًا أن {مَلِكِ النَّاس} يحميه، وإذا حماه «المَلِك» فلا يضره أن يكون البشر والعبيد والجنود والرعية معه أو ضده، كما يقال:
وإذا العنايةُ لاحظتك عيونُها * نمْ، فالمخاوفُ كلُّهن أمانُ
2- أن الضرر غالبًا ما يلحق الناس من الأكابر، من الملوك ومَن حولهم من الأعوان والحاشية.
وكانت العرب تخاف من ملوك الجن، ويستعيذون بهم إذا نزلوا واديًا من شرِّ سفهائهم، وكذلك السَّحَرة؛ فإنهم كثيرًا ما يعوِّلون على ملوك الجن الذين يطيعونهم، ويأتمرون بأمرهم، وينصاعون لأقوالهم.
واليوم صار للملوك معنى أوسع لا يختص بذوي السلطة السياسية، بل يتعدَّاها إلى النفوذ العالمي، كالنفوذ الإعلامي أو الاجتماعي.. وأباطرة الإعلام يبثون للناس عبر تقنياتهم كمًّا هائلًا من التأثيرات المثيرة للغرائز والمهيِّجة للعواطف، مما يشكِّل مادة استهلاكية تمنحهم متعة عابرة، وتسرق من جيوبهم دخلهم المحدود.
ومثلهم أباطرة الموضة الذين يتحكَّمون في أذواق الناس، ويتدخلون في أخص خصوصياتهم، ويفرضون عليهم ما يلبسون، حتى يصبح هذا قانونًا عامًّا يصعب على الفرد مخالفته أو الخروج عنه، وهم يملكون المال والدعاية والمصانع والإعلان، ويشتغلون على تحريك وساوس الناس بالشهوات المغرية أو بالشبهات المشكِّكة.
ولهذا جاء التأكيد على معنى «الملك» لله سبحانه وتعالى، وأن الأمر بيده، والسلطان له، وهذا معنًى مناسب لأن يستعيذ الإنسان من شرِّ أولئك الملوك الذين يبسطون سلطتهم على كثيرين، وكأنهم وكلاء عن الشيطان.
وقد ذكر السياق «الناس» ثلاث مرات، ولم يقل: «أعوذ برب الناس وملكهم وإلههم»، وهذا يسمى: إقامة الظاهر مقام المضمر.
وفي الآيات التكرار الحلو العذب على اللسان، فإن الإنسان يقرأ السورة ويستشعر جمال المعنى، ويجد الكلمة في سياقها ملائمة لا ينوب غيرها عنها، والتكرار فن في لغة العرب وأسلوب القرآن، ومنه تكرار مالكِ بن الرَّيْبِ لبعض الألفاظ في قصيدته المشهورة التي قالها في مرض الموت، وفيها:
فليتَ الغضا لم يقطعِ الركبُ عَـرْضَه * وليت الغضا ماشى الركابَ لياليا
لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا * مزارٌ ولـكـنَّ الغضا ليس دانـيـا
فتكرار كلمة {النَّاس} احتفاءٌ بالناس الذين يذكرهم ربهم في آخر سورة في المصحف، وفي نهاية كل آية من السورة.
ويعرِّف نفسه سبحانه وتعالى بأنه: ربهم وملكهم وإلههم، وهو ربُّ كل شيء، وملك كل شيء، وإله كل شيء.
إن الناس وحدهم هم المتعبَّدون بالأمر والنهي، بخلاف الملائكة والطيور والأشجار والجمادات وغيرها؛ فإنها مسخَّرة بأمر ربها.
والناس من شأنهم أن يطيعوا فيُشكَروا ويجزوا بالجنة، أو يعصوا ويكفروا فيجزوا بالنار، فهي تبعة ومسؤولية يقابلها حساب وجزاء.
والإشادة بالناس معنى يتكرر في القرآن الكريم، كما في قول الله تعالى:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} [الإسراء: 70].
وفي كثير من المواضع يأتي الخطاب المكي: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ}، {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ}، وأيُّ رفعة للبشر أعظم من أن يخاطبهم ربهم خطابًا مباشرًا في نص قدسي يُتلى إلى يوم الدين!
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7