إشراقات قرآنية: سورة النصر
الحلقة 175
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
محرم 1442 هــ / سبتمبر 2021
* {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}:
أمر اللهُ سبحانه نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالتسبيح، وقد صحَّ من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعدما نزلت عليه هذه السورة، كان قلَّما يركع أو يسجد إلا قال: «سبحانك اللهمَّ ربنا وبحمدك، اللهمَّ اغفرْ لي». يتأول القرآن. أي: يحقِّق ما أمره ربه تبارك وتعالى.
والأمر بالتسبيح بحمد الله معناه: قل: «سبحان الله والحمد لله». أو يكون المعنى: سبِّح ربك وأنت متلبِّس بحمده، يعني: قائم بحمده. وهو أقرب.
وكأن النبي لما جاء النصر والفتح، وتحقَّق له ما وعده ربه؛ حمد ربه من تلقاء نفسه بمجرد رؤيته لهذه النعم، وإن كان قبلها يحمد ربه بقلبه ولسانه وجوارحه.
والفرق بين «الحمد» و«الشكر» هو أن «الحمد» يكون بالثناء على المحمود بصفات الكمال والمجد والعظمة والكبرياء، والجلال والقوة والقدرة والعلم والرحمة، وأما «الشكر» فيكون بالثناء عليه بالمعروف الذي أسداه إلى الشاكر.
ولماذا رُتِّبت هذه الأشياء الثلاثة، فبدأ بالتسبيح، ثم الحمد، ثم الاستغفار؟
الجواب: إن هذا الترتيب مناسب؛ لأن حقيقة التسبيح هو الثناء على الله بالمحامد، ونفي النقائص، وهذا أكمل وأعلى ما يكون.
ثم ثنَّى بالحمد، والحمد فيه معنى الشكر، فهو حمد الله تعالى على ما أنعم به على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين من الخير والنصر.
ثم ثلَّث بما يتعلق بحال العبد نفسه، وهو الاستغفار من الذنب والتقصير في العبادة والحمد والثناء، كما قال الله سبحانه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19].
وهنا سؤال: ما معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار؟ وهل صدر منه ما يُوجِب الاستغفار حتى يؤمر بذلك؟!
من أهل العلم مَن قال: المقصود بهذا أمته صلى الله عليه وسلم، أو أن يستغفر لأمته.
ومنهم مَن قال: أمره بالاستغفار من أجل أن تقتدي به أمته، فكأنه يقول: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم مأمورًا بالاستغفار فأنتم بذلك أولى!
ومنهم مَن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد يقع منه ما ينبغي له الاستغفار منه من غير أن يكون معصية لله، فقد يقع منه اجتهاد على خلاف الأولى في بعض المسائل، أو يقع منه انشغال في بعض الأمور التي يكون الاستغفار منه لائقًا ومناسبًا ومحقِّقًا لكمال نبوته صلى الله عليه وسلم، كما في قصة الأعمى، وأسرى بدر، وزواج زينب، وتحريم شرب العسل على نفسه ونحوها، وهي من جنس فعل المفضول، أو خلاف الأَوْلَى في الاجتهاد.
وأولى من ذلك أن يقال: إنه لا يستطيع أحدٌ أن يصل إلى أداء حق الله عليه، وإنَّ كل ما يعمله لله فهو قاصر عن أداء حق الله، ولذا تُتْبع الصلاة بالاستغفار، ويُتبع الحج بالاستغفار: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ} [البقرة: ١٩٩]، ويُختم عمر النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته بالاستغفار: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}.
فكل كثير يُؤدَّى لله فهو قليل في جنب حقه العظيم جل وعز، ولا يلزم أن يتوجَّه الاستغفار إلى ذنب أو خطأ بعينه، ولكن حال كل أحد مهما اجتهد قاصرة عن أداء ما يجب لله.
{إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}: لم يقل: «إنه كان غفارًا»، مع أنه أُمر بالاستغفار، من باب التنويع ورعاية الفواصل، وهو أدل على أن المقصود ليس الاستغفار من ذنوب أو معاصٍ، وإنما هو من باب ختم العمل والحياة بالتذلل لله العظيم حين كان صلى الله عليه وسلم في آخر أيام عمره المبارك، والتوبة رجوع، فناسب ذكرها للإشارة إلى قرب رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى ربه، وانقضاء أجله.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7