إشراقات قرآنية: سورة النصر
الحلقة 174
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
* {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}:
هذا هو الوعد الثالث، والمقصود بالناس هنا: العرب، وليس الناس كلهم، ولهذا قال: {أَفْوَاجًا} أي: جماعات إثر جماعات، كما قال بعضهم: إن (ال) هنا للاستغراق العرفي، يعني: الناس المعروفين في جزيرة العرب.
والأفواج جمع: فوج، وهو الجماعة، وهنا لم يعد الناس يدخلون أفرادًا مستخفين مستترين كما كان عليه الأمر.
وذلك دليل على قوة شوكة الإسلام، وأن شيئًا ما تغير فعلًا، وهؤلاء الذين دخلوا أفواجًا لا يعدون من السابقين إلى الإسلام؛ لأن الشيء الذي حملهم على أن يدخلوا أفواجًا هو إما الفتح وإما دينونة جزيرة العرب للإسلام، كما في حديث عمرو بن سَلَمة رضي الله عنه: «كانت العرب تَلَوَّمُ بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيٌّ صادق».
وبعضهم قد يكون منعه من الإسلام خوفه على نفسه، أو ماله، أو سلطانه، فلما رأوا أمر الإسلام قد عز واستوثق وتعاظم ذهبت المخاوف، ودخلوا في الدين مطمئنين.
ومنهم مَن دخل لرغبة أو رهبة، خوفًا أو رجاءً، كما جاء عن صفوان بن أُمَيَّة أنه قال: «أعطاني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين وإنه لأبغض الخلق إليَّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إليَّ».
ومسألة تغيير الدين والانسلاخ من ملة لأخرى ليس بالأمر الهين، وبهذا تظهر منقبة السابقين للإسلام وفضلهم على غيرهم؛ حيث آثروا ما عند الله على متع الدنيا وشهواتها، وجاهدوا في ذلك أعظم المجاهدة، وتغلَّبوا على مألوفهم وعاداتهم، وبادروا لقبول الدعوة والتضحية في سبيلها.
والذين دخلوا في دين الله أفواجًا كان أكثرهم على مدى عشرين سنة شجًى في حلوق المؤمنين، آذوهم، وقتلوا منهم ونهبوا الأموال، ومع هذا قبل الله منهم الإسلام، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنهم، فالإسلام يَـجُبُّ ما قبله، والهجرة تَجُبُّ ما قبلها، والتوبة تَجُبُّ ما قبلها، والحج يَـجُبُّ ما قبله.
ذِكْرُ النصر والفتح، ثم ذِكْرُ دخول الناس في دين الله، يبيِّن أن الهدف هو دخول الناس في دين الله أفواجًا، وها هو قد تحقق.
إن فرح المؤمنين بدخول الناس في دين الله، هو دليل على تجردهم من حظوظ نفوسهم، وتغلبهم على أنانيتهم وقدرتهم على التسامح والصفح عن أولئك الذين ظلموهم وحاربوهم، ثم ها هم يفرحون بهم إخوانًا ينافسونهم في الطاعة والتقوى والجهاد.
إن المقصود الأعظم هو إزالة العقبات التي تحول دون دخول الناس في دين الله، والجهاد ليس غاية في نفسه، ولم يشرع من أجل إزهاق الأرواح، والكفر بمجرده ليس موجبًا لإزهاق النفس.
ولذلك قدر الله سبحانه وتعالى أن يظل وجود الكفار في الدنيا إلى قيام الساعة، بل لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، و«لا تقومُ الساعةُ حتى لا يُقالُ في الأرض: الله الله». وله تعالى الحكمة البالغة التي لا يحيط بها خلقه.
ومن حكمته أن خلق الناس مختلفين، كما قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، وقدَّم الكافر؛ لأن الكفار هم الأكثر عددًا.
وليس المقصود إزهاق أرواحهم بالقتال، بل دعوتهم وهدايتهم.
ولذا كان الإسلام يمنع القتل ويحقن الدم، حتى ولو كان إسلامًا في الظاهر، كما في قصة أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فصبَّحنا الحُرَقات من جُهينة، فأدركتُ رجلًا، فقال: لا إله إلا الله. فطعنتُه، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرتُه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أقال: لا إله إلا الله. وقتلته؟». قلتُ: يا رسولَ الله، إنما قالها خوفًا من السلاح. قال صلى الله عليه وسلم: «أفلا شققتَ عن قلبه، حتى تعلمَ أقالها أم لا». فما زال يكرِّرها عليَّ حتى تمنيتُ أني أسلمتُ يومئذ.
ولما بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالب رضي الله عنه إلى خَيْبر قال له: «امشِ ولا تلتفتْ حتى يفتحَ اللهُ عليك». فسار عليٌّ رضي الله عنه شيئًا، ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسولَ الله، على ماذا أقاتلُ الناسَ؟ قال: «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله». هذه رواية مسلم.
وفي رواية «الصحيحين»: قال عليٌّ رضي الله عنه: يا رسولَ الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «انفُذْ على رِسْلكَ حتى تنزلَ بساحتهم، ثم ادْعُهُم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجبُ عليهم من حقِّ الله فيه، فوالله لأن يَهْدِيَ اللهُ بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من أن يكونَ لك حُمْرُ النَّعَم».
ودخول الناس في دين الله أفواجًا كان ثمرة صلح الحُدَيْبِيَة؛ لأن الناس بدأ يتحدَّث بعضهم إلى بعض، وكذلك بعد فتح مكة استقر الأمر؛ لأن جزيرة العرب كلها دانت للمسلمين.
وإضافة الدين إلى الله هي في مقابل إضافة النصر إليه، فـ«نصر الله» جاء من أجل «دين الله»، ولم يقل: «الدِّين»؛ لأن العرب تُطلق الدِّين على الطاعة والاتِّباع للملوك، والدعوة لم تكن إلى عبادة أحدٍ غير الله وحده.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7