وهو أبٌ لهم (2)
الحلقة السابعة والتسعون من كتاب
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
رجب 1443 هــ / فبراير 2022
- الحب العظيم.. للخُلُق العظيم:
لما اختُطف زيدٌ من أرضه في شمال الجزيرة العربية وبِيع عبدًا رقيقًا في مكة وصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع أهلُه أنه بِيع في مكة، فجاؤوا إليه وعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتروه منه، فقال لهم: «أَوَ غَيْرُ ذَلِكَ؟ ادْعُوهُ فَخَيِّرُوهُ، فَإِنِ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ بِغَيْرِ فِدَاءٍ، وَإِنِ اخْتَارَنِي فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَى مَنِ اخْتَارَنِي فِدَاءً». قالوا: زدتنا على النِّصف. فدعاه فقال: «هَلْ تَعْرِفُ هَؤُلَاءِ؟». قال: نعم، هذا أبي وهذا عمِّي. قال: «فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ، وَرَأَيْتَ صُحْبَتِي لَكَ، فَاخْتَرْنِي أَوِ اخْتَرْهُمَا». فقال زيدٌ: ما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، أنت منِّي بمكان الأبِ والعمِ. فقالا: ويحك يا زيدُ، أتختار العبوديّة على الحرية، وعلى أبيك وعمّك وأهل بيتك؟ قال: نعم، إني قد رأيتُ من هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا. فلما رأى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر، فقال: «اشْهَدُوا أَنَّ زَيْدًا ابْنِي أَرِثُهُ وَيَرِثُنِي». فلما رأى ذلك أبوه وعمُّه طابت أنفسهما وانصرفا، فدُعِي: زيد بن محمد، حتى جاء الُلَّه بالإسلام.
وها هنا سؤال يطرح نفسه: لِمَ أحب زيدُ بن حارثة النبيَّ صلى الله عليه وسلم هذا الحب وقدمه على والديه وعلى أهله وعشيرته وجماعته؟ وما الذي حمله على هذا قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد حمله على ذلك الخلق العظيم الذي كان يتمثل به النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا غرابة أن يخاطبه ربه فيقول: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]. ولا غرابة أبدًا أن يلخص النبي صلى الله عليه وسلم مقاصد البعثة النبوية بقوله: «إنَّمَا بُعِثْتُ لأتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ».
إن الفطرة السليمة التي فطر عليها النبي صلى الله عليه وسلم في الخلق الطيب هي التي حببت إليه الناس كلهم جميعًا، وجعلت أعداءه يتحولون إلى أصدقاء، ويحبونه صلى الله عليه وسلم، بل ويفدونه بآبائهم وأمهاتهم.
لقد جاء عروة بن مسعود في صلح الحديبية، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى قومه وهو يقول: «والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قَيْصَر وكِسْرَى والنجاشي، والله إن رأيتُ ملكًا قط يعظمه أصحابه، ما يعظم أصحاب محمد محمدًا».
لما كانت معركة بدر وتقدَّم بعض المسلمين للمبارزة كان منهم: عُبيدة بن الحارث رضي الله عنه الذي قاتل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وحُمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتشحط في دمه ويقول: «والله يا رسول الله، لو رآني أبو طالب لعلم أني أحق بقوله:
ونُسْلِمُهُ حتَّى نُصَرَّعَ دُونَهُ *** ونَذْهَلَ عَنْ أبنائِنَا والحَلائِلِ»
لقد كانت دماؤهم تسفك بين يديه صلى الله عليه وسلم، وهم يرضون بذلك، ولا يرضون أن تصيب النبي صلى الله عليه وسلم شوكة في قدمه.
- تعلم أصول الأخلاق:
هذا المعنى العظيم المعبر عن الخلق الفاضل من أهم أسرار شخصيته صلى الله عليه وسلم، لقد تقلبت به الأحوال كلها من الغنى والفقر، والقوة والضعف، والصحة والمرض، والغربة والاستقرار، وكل الأحوال التي تجري على الناس كلهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في كل هذه الأحوال مثلًا للخلق الفاضل.
وحالَاتُ الزَّمَانِ عَلَيْكَ شَتَّى *** وَحَالُكَ وَاحِدٌ فِي كُلِّ حَالِ
كان النبي صلى الله عليه وسلم داعيًا إلى الله عز وجل، ولكن دعوته كانت بالخلق الفاضل، فكان من أهم أسباب قبول دعوته، وإصرار الصحابة رضي الله عنهم في الدفاع عنه والفداء دونه، وقد قال له ربه عز وجل: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].
إن الكثيرين قد يجيدون فن الكلام، والحديث عن الأحكام، والحلال والحرام، والحق والباطل، والخطأ والصواب، والصحيح والفاسد، وهي أمور يحتاج الناس فيها إلى التعليم، لكن الأمر الذي يكون الناس في أشد الحاجة إليه في التعليم هو أن يعلموا أصول الأخلاق التي أجمع عليها الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وجاءت بها الشرائع السماوية كلها، وامتلأت بها الكتب المقدسة، وآخرها وأكملها القرآن الكريم، الذي حفظ أصول الأخلاق.
إن تعليم الأخلاق ليس من خلال كتب أو تعاريف، فإننا قد نضع لطلابنا مقرَّرًا في الأخلاق يتكلم عن معانيها ودلالاتها وأقسامها، لكن هذا ليس هو المقصود؛ فليست الأخلاق معلومات فقط تصل إلى ذهن الإنسان أو محفوظات يستطيع الإنسان أن يرددها.
الأخلاق سلوك وممارسة وتطبيق، فالمحك العملي لها هو المعيار، وإن من أهم الأشياء التي نحتاج إليها اليوم في مجتمعنا أن نوجد المثل والقدوة؛ لأن الكثيرين حينما يستمعون إلى محاضرة عن الأخلاق كالبر، أو الوفاء، أو الإحسان إلى غير ذلك، تجدهم في النهاية يقولون: هذا كلام طيب جميل لكن العبرة بالتطبيق.
إن الإنسان لا يستطيع أن يكون مؤثرًا حتى يكون ممتثلًا مطبقًا، وقد قال خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ [هود: 88].
رابط تحميل كتاب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
http://alsallabi.com/books/view/506
كما ويمكنكم تحميل جميع مؤلفات فضيلة الدكتور سلمان العودة من موقع الدكتور علي الصَّلابي الرسمي