مسألة الفروع والأصول عند الأئمة الأربعة
فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة الثالثة
20 شوال 1443ه/ 21 مايو 2022م
وكما أن اتفاقهم في الأصول هو من الجوامع الكلية التي تواردوا عليها؛ فإن اختلافهم في بعض الفروع هو من الجوامع والفروق في آنٍ.
فهو من الجوامع؛ بمقتضى دلالته على أنهم إذا اختلفوا فقد أشرعوا لمَن وراءهم سبيل الاختلاف، واقتضى فعلهم أن المسألة خلافية، وأن الأقوال التي دارت مذاهبهم عليها هي أقوال معتبرة، وليست من قبيل زلَّات العلماء، ولا من الشذوذ الفقهي؛ لأنها بُنيت على نصوص أو على قواعد صحيحة.
ونحن وإن كنا نميل إلى أن المصيب في ذات الأمر واحد، والبقية مجتهدون لهم أجر الاجتهاد، إِلَّا أننا ننظر إلى المسألة من زاوية أن الاختلاف ذاته في الحكم وزاوية النظر وطريقة الاستدلال بين هذه المدارس العريقة، هو مؤشر مهم على أن الخلاف فيها سائغ، فكأنهم اتفقوا على الاختلاف فيها، ولهذا اختلفوا، ولم يُنكر بعضهم على بعض، ومن هنا كانت هذه المسألة من الفروق، بحكم اختلاف الرأي فيها، واختلاف بعض زوايا النظر والتأصيل الفقهي بينهم.
من هذا الباب نهى الإمام مالك رحمه الله أبا جعفرٍ المنصور عن اعتماد مذهبه وتعميمه في الأمصار، حيث قال: «لا تفعل هذا؛ فإن الناسَ قد سبقت إليهم أقاويلُ، وسمعوا أحاديثَ، ورَوَوْا رواياتٍ، وأخذ كلُّ قوم بما سبق إليهم وعملوا به، ودَانُوا به من اختلاف الناس أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرَهم، وإن ردَّهم عما اعتقدوه شديد، فَدَعِ الناسَ وما هم عليه، وما اختار كلُّ أهل بلد منهم لأنفسهم»
وكان يحيى بن سعيد الأنصاري يقول: «أهلُ العلم أهلُ توسعة، وما برح المُفتون يختلفونَ، فيحلِّل هذا ويحرِّم هذا، فلا يعيبُ هذا على هذا، ولا هذا على هذا»
اختلافهم سبقه اختلاف الصحابة رضي الله عنهم، فكان اختلافهم رحمة واسعة، كما كان إجماعهم حجة قاطعة، على ما يقوله ابن قدامة.
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: «ما يسرُّني لو أن أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو لم يختلفوا لم تكن رخصة».
وقد جاء إسحاقُ بن بُهلولٍ الأَنباري بكتاب إلى الإمام أحمد، وقال: جمعتُ فيه الخلاف، وسميتُه: «كتاب الاختلاف». فقال: لا تسمِّه: كتاب الاختلاف، سمِّه: «كتاب السَّعة».
وكان طلحة بن مُصرِّف إذا ذُكر عنده الاختلاف قال: «لا تقولوا: الاختلاف. ولكن قولوا: السَّعة».
إن هذه العقلية المتفتِّحة على الاختلاف، أبعد ما تكون عن الأُحادية أو الضيق أو القطع بما لديها، مما هو محل احتمال وليس من باب القطعيات، ومثل هذا هو الذي يسع الناس، ولا يفتنهم في دينهم، أو يضيِّق عليهم في دنياهم.
الطريفُ أن التاريخ الإسلامي شهد ميلاد ما يمكن تسميته بـ: «الأحزاب الفقهية»، وهي تعالج نصوصًا ومسائل تعبديَّة، وتكرِّس الاختلاف بما لم يكن موجودًا في العصر الأول؛ لأن الخلفاء الراشدين كانوا حكَّامًا وعلماء في الوقت ذاته، فورث الأئمةُ منصب العلم والفقه، وكان وجود الأربعة ومَن وراءهم تقسيمًا مبكِّرًا للخريطة الإسلامية الواسعة، بينما لم يشهد الجانب السياسي أي منافس مستقل للسلطة الزمنية القائمة على شكل أحزاب أو تيارات تحفظ التوازن وتشكِّل رقابة على الأداء السياسي!
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 8-10
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: