في مسألة الاستجابة للمتغيِّرات عند الأئمة الأربعة
فضيلة الشيخ الدكتور سلمان العودة
الحلقة الرابعة
21 شوال 1443ه/ 22 مايو 2022م
ولئن كان هؤلاء الأئمة ظهروا في عصر استثنائي، فإننا نعيش اليوم عصرًا استثنائيًّا في متغيراته ومستجداته وكشوفه وبلواه؛ مما يؤكِّد ضرورة وجود علماء مجتهدين كهؤلاء الأئمة، يُجيبون على أسئلة العصر، ويحلُّون مشكلاته، ويقدِّمون الصياغات الشرعية الصحيحة المنضبطة للشريعة والملائمة للواقع والحال والعقلية المعاصرة.
وهذه الأُمنية ليست شيئًا من الخيال، ولا ضربًا من المحال؛ فالأمة أمة مرحومة، كما في حديث أحمد، والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «مثلُ أمتي مثلُ المطر، لا يُدرى أولُه خيرٌ أم آخرُهُ»
وقد تيسَّرت أسباب العلم، وطُبعت موسوعاته، وقامت مدارسه، وسهل التواصل بين الناس في المشرق والمغرب، واتَّسع نطاق الحريات العلمية والعملية؛ فغدا من الميسور اختيار المؤهَّلين بالفطنة الذكية والاستعداد الفطري، وتوجيههم لدراسة شرعية عميقة، تمنحهم رسوخًا وفهمًا، وتعزَّز بدراسات عصرية واقعية، تلقِّح أفكارهم، وتمنحهم المواكبة، والقدرة على التحديث وفهم المستجدات، واستيعاب المتغيرات.
وبذا تتحوَّل القيادة العلمية والفقهية من كونها مصادفة غير مرتَّبة إلى أن تكون اختيارًا مدروسًا لكفاءات علمية وأخلاقية رَزِينة وواعية وقادرة على استيعاب الناس، تجمع بين الانضباط المرجعي الأصيل وبين الانفتاح المعرفي المتجدِّد، وتعرف أين تشدِّد وأين تلين، وتعرف أين تجزم وأين تتردَّد، متى تقول ومتى تسكت..
إنها ضرورة استراتيجية عظمى، يتحمل عبئها كل قادر، أكان من أصحاب القرار، أم من أهل العلم، أم من قيادات الدعوة، أم من رجال المال والأعمال، ومَن لم يكن لهم عظماء فليصنعوا عظماءهم!
وليس يجدر بمُصْلِحي اليوم أن يتوقَّفوا عند الاجتهاد الذي حاوله السابقون، بل أن يأخذوا منهم المنهج الصائب الذي يُبنى عليه الاجتهاد، وإِلَّا فلكل عصر مشكلاته وتحدياته وظروفه، ولكل وقت إمكانياته العلمية والسياسية والاقتصادية، وربما تمنَّى الأئمة السابقون شيئًا ولم يُكتب لهم بحكم الظروف، وصار اليوم ممكنًا ومتاحًا مع الانفجار المعرفي والمتغيِّر العالمي والحدث السياسي.
ويتعيَّن تجنُّب الاستفراد في معالجة النوازل العلمية أو السياسية أو الاجتماعية التي يحتاجها خلقٌ كثيرٌ من الناس، ويَلْتَبِسُ أمرُها ويتداخل شأنها، والعصر عصر تواصل وحوار وتبادل.
والمجامع العلمية والفقهية يمكن أن يترقَّى أداؤها ويتطوَّر لتقديم الرأي الناضج المدروس المبني على المعرفة بالنازلة والمعرفة بالشريعة، بعيدًا عن هيمنة مذهب خاص أو سلطة سياسية أو تيار فكري، وذلك ممكن، والظروف المتغيِّرة تعين عليه، خاصة مع الانفجار المعرفي الواسع، والتداخل بين المعارف بأكثر مما كان يُظَن، وضعف الآلة العلمية لكثير من الباحثين، والشأن في تحقيق الاستقلال الذاتي ماديًّا ومعنويًّا، والإنفاق على البحث العلمي الشرعي بواسطة الأوقاف والهبات وغيرها، وفي الروح المستوعِبة الواسعة التي لا تتعصَّب لأحد، ولا تتعصَّب ضد أحد، وكما يقال: أحلام اليوم حقائق الغد!
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 10-11
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: