من ابتلاءات الأئمة الأربعة
بقلم الدكتور سلمان العودة
الحلقة السادسة
23 شوال 1443ه/ 24 مايو 2022م
كما كان العلم والفقه معنًى مشتركًا بين الأئمة الأربعة، فقد اشتركوا أيضًا في المحنة والابتلاء.
لقد امتُحِنوا من قِبل السلطان والأَقْران والعامة، فصبروا؛ فقد عُرض الشافعي على السيف، وسُجن أحمد في الفتنة المشهورة، وجُلد مالك في طلاق المُكْره، واتُّهِم أبو حنيفة وضُرب على القضاء، دخلوا كلهم في المحنة، وخرجوا منها ذهبًا خالصًا غير مَشُوب، وكان عاجل بشراهم القَبول الذي شربه الناس مع الماء، وتنفَّسوه مع الهواء. "ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" [الجمعة:4].
ولم يقتصر الأذى على سلطة تحاذر شعبيتهم، بل من جهلة وعوام وأَغْرار، ربما شتموا وآذوا وتجرؤوا أو اتَّهموا، كما في تفصيل سيرة كل واحد منهم من غرائب القصص التي تقع من آحادٍ لا يبالون بمكانة الأئمة ولا بالتفاف الناس حولهم وحبهم لهم، وذلك لا يقع إِلَّا من جاهل، تدل مقالته على ثقل الطبع وخشونة الأخلاق وجفاف اللغة، أو من حاسد، يغيظه ما يرى من فضل الله على عباده.
تفوَّقوا في هذه المحن، وتمكَّنوا، فقد قيل للشافعي: أيهما أفضل للرجل، أن يمكَّن أو يُبتلى؟ فقال: «لا يمكَّن حتى يُبتلَى».
فلم ينتقموا ولم يتظلَّموا، بل تجاوزوا القضية ونسوها كأن لم تقع.
وقد يعيبهم مَن هو بمقام العلم والديانة، ولكن يعتريه الضعف البشري، أو يُؤتى من نقص إدراكه لما أدركوا.
وقد سأل أحمدُ بن حنبل مرةً بعضَ الطلبة: من أين أقبلتم؟ قالوا: من مجلس أبي كُريب. وكان أبو كُريب محمد بن العلاء الهَمْداني ينال من الإمام أحمد وينتقده في مسائل، فقال: اكتبوا عنه؛ فإنه شيخ صالح. فقالوا له: إنه يطعن عليك؟! قال: فأي شيء حيلتي؟! شيخ صالح قد بُليَ بي.
وهذا إنما يصدر من أصحاب النفوس الكبيرة التي تجرَّدت من حظوظها الذاتية، ولم تتمحور حول مكاسبها الشخصية.
إن إثارة المعارك حول ظلم شخصي لم يكن من طبعهم، فرسالتهم أبعد من ذلك، وقدوتهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
«هل أنتِ إِلَّا أصبعٌ دَمِيتِ *** وفي سبيل الله ما لَقِيتِ!».
لم يحوِّلوا المعاناة الشخصية إلى قضية عامة.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 16-15
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: