دروس في الأسماء
د. سلمان بن فهد العودة
الحلقة الثامنة
25 شوال 1443ه/ 26 مايو 2022م
من أبرز الملامح التي يمكن أن نستشفها من حياة الأئمة الأربعة ما يلي:
أ- عبر هذه الخارطة يتم انتظام جمع غفير من الشخصيات العلمية، ما بين شيخٍ شارك في التكوين، وتلميذٍ شارك في الوراثة، وكأن الأربعة مفاصل مهمة لا تتكرَّر، إذ ليسوا أطرافًا منعزلة، بل هم في صميم الصورة، وعمق المشهد.
ب- كثرة الرواة عنهم، ولقد كانوا معارف يُقصد مجلسهم، ويُرحل إليهم، ويفخر التلميذ بالأخذ عنهم، ولهم قدرة على التعليق والبذل والتفهيم، وجاذبية أو «كاريزما» تجعل الكثير من الطلبة يألفونهم ويحبونهم ويتشبَّعون بأفكارهم، ويقبسون من تجربتهم.
ج- أخذ بعضهم عن بعض، إما مباشرة، كما أخذ الشافعي عن مالك، وعن أحمد، وكما أخذ أحمد عن الشافعي، فهو شيخه وتلميذه، أو بطريقة غير مباشرة، كما أخذ أحمد عن أبي يوسف ووكيع ويزيد بن هارون، وهم من تلاميذ أبي حنيفة.
وقد روَى الإمام أحمدُ عن الشافعي حديثًا طريفًا مُسَلْسَلًا بالأئمة، رواه أحمد عن الشافعي عن مالك- وهم ثلاثة أئمة متبوعون- عن ابن شِهاب الزُّهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نَسَمَةُ المؤمن طائرٌ يَعْلَقُ في شجر الجنة، حتى يُرْجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يومَ يبعثه».
ونصُّ هذا الحديث يبشِّر إن شاء الله بأن هؤلاء الأئمة ممن يشملهم فضل الله، وتأوِي أرواحهم إلى شجر الجنة، حتى يبعثهم ربُّهم ويحشرهم مع النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، (وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69].
وهذا يوحي بعمق الرابطة العلمية بينهم، وتبادل المعرفة، ويعبِّر عن قدر من الاتصال والتداخل بين هذه المدارس؛ فهي تؤثِّر وتتأثَّر فيما بينها، وليست جُزُرًا معزولة، ولم تكن الأسوار الوهمية أو الاختلافات الجزئية حائلًا دون التلاقح والتعارف.
قال ابن أبي عُمر العَدَني: سمعتُ الشافعيَّ يقول: «مالك مُعَلِّمي، وعنه أخذتُ العلم».
وكان أحمد يقول لولد الشافعي محمد بن محمد: «أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم وقت السَّحَر».
وقال صالح بن أحمد: «مشى أبي مع بغلة الشافعي، فبعث إليه يحيى بن مَعِين، فقال له: يا أبا عبد الله، أما رضيتَ إِلَّا أن تمشي مع بغلته؟! فقال: يا أبا زكريا، لو مشيتَ من الجانب الآخر كان أنفع لك». وقال: «إن أردتَ الفقهَ فالزم ذَنَبَ البغلة».
وقال محمد بن إسحاق بن رَاهُويه: سمعتُ أبي يقول: قال لي أحمد بن حنبل: «تعال حتى أُرِيَكَ رجلًا، لم تَرَ عيناك مثله. فذهب بي إلى الشافعي». قال محمد بن إسحاق: قال لي أبي: «وما رأى الشافعيُّ مثلَ أحمد بن حنبل!».
بهذه الروح الصافية عاش الأئمة، وعليها ماتوا، وبها يحشرون إلى الجنة بإذن الله (إِخْوَٰنًا عَلَىٰ سُرُرٍۢ مُّتَقَٰبِلِينَ) [الحجر:47].
وما أخلق أتباعهم من جماهير المسلمين بأن يحافظوا على هذا المعنى، ويجعلوه أساسًا في العلاقة بينهم، فلا تفرِّقهم الأهواء والنزعات والنزغات، ولا تعكِّر صفوهم الاختلافات!
د- كما تجد الاشتراك في الطلبة والشيوخ، فالاسم يتكرَّر هنا وهنا، والطالب ينتقل من حلقة إمام لحلقة إمام، حتى إن حماد بن أبي حنيفة جالس مالكًا وأخذ عنه.
إن الروح السائدة في ذلك الجو العلمي لم تكن روح تعصُّب ولا مهاجَرَة ولا إقصاء؛ فالعلم رحم بين أهله، كما يقول أبو تَمَّام:
إِن يُكْدِ مُطَّرَفُ الإِخاءِ فَإِنَّنا *** نَغدُو ونَسْرِي في إِخاءٍ تالِدِ
أو يَختَلِف ماءُ الوِصالِ فَماؤُنا *** عَذبٌ تَحَدَّرَ مِن غَمامٍ واحِدِ
أو يَفتَرِق نَسَبٌ يُؤَلِّفُ بَينَنا *** أَدَبٌ أَقَمناهُ مُقامَ الوالِدِ
هـ- تقارب عصرهم، فهم ما بين سنة (80 هـ)، وهي سنة ميلاد الإمام أبي حنيفة، إلى سنة (241هـ)، وهي سنة وفاة الإمام أحمد.
وهذا يدل على الضرورة الاجتماعية لنشوء المذاهب، وأنها كانت حاجة متجدِّدة لم تطرأ في عهد الصحابة بالصفة ذاتها؛ ولذا تردَّد فيها من تردَّد، ولكن الصيرورة التاريخية أثبتت أنها حاجة حقيقية وليست وهمية، وأنها إن لم تكن خيارًا فاضلًا في وقت مضى، فهي في تلك الحقبة الخيار الأفضل.
و- ونلحظ ملازمة أحدهم لشيخ يتَّخذ الطلب عنده أساسًا لحياته العلمية والسلوكية، مع الاختلاف إلى غيره، فأبو حنيفة اختصَّ بأستاذه حَمَّاد بن أبي سُليمان، ومالك اختصَّ بأستاذه ابن هُرْمُزَ عبد الله بن يزيد الأَصَم، والشافعي اختصَّ بأستاذه مالك، وأحمد أختصَّ بأستاذه هُشيم بن بَشِير الواسطي وأخذ عنه وتخرَّج به.قال القَعْنَبيُّ: سمعتُ مالكًا يقول: «كان الرجل يختلف إلى الرجل ثلاثين سنة يتعلَّم منه» وقال عبد الله بن نافع: «جالست مالكًا أربعين أو خمسًا وثلاثين سنة»
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 19-22
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: