هل الحق محصور في الأئمة الأربعة؟
الشيخ سلمان العودة (حفظه الله)
الحلقة العاشرة
27 شوال 1443ه/ 28 مايو 2022م
من نافلة القول أن آراء هؤلاء الأئمة لم تكن نشازًا بالنظر إلى ما قبلها، فهي محصِّلة الموروث الفقهي السابق، يضاف إليه آراء واجتهادات جديدة لم يُسبقوا إليها في مسائل ونوازل، بل في التأصيل والتقعيد ذاته.
وعليه، فإن من الخطأ الزعم بأن أقوالهم تنسخ ما قبلها وتلغي ما سواها.
وقد وقع للإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله (736-795 هـ) اجتهاد خالفه فيه الجمهور، شدَّد فيه على وجوب اتِّباع هؤلاء الأئمة دون غيرهم، ونظَّر له بإجماع المسلمين على حرف واحد من حروف القراءة في الكتاب الكريم، بعدما كانت الأحرف متعدِّدة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى أن من حكمة الله في حفظ الدين أن نصَّب للناس هؤلاء الأئمة المُجمع عليهم، وكتب في ذلك رسالة خاصة سمَّاها: «الرد على مَن اتبع غير المذاهب الأربعة».
وكأنه احتجَّ بالأمر القَدَري الذي وقع، ونظَّر له بما وقع من أمر القرآن، وهو أمر لا يتَّفق مع طريقته في التفريق بين الشرع والقدَر.
والذي يبدو أن الحافظ ابن رجب رحمه الله كتب هذه الرسالة في ظل استقطابات داخل المذهب الحنبلي ومدرسته بالشام، فهي متزامنة مع حضور المدرسة التيمية واتساع دائرة البحث والاجتهاد فيها خارج المذهب الحنبلي، بل خارج أقوال الأئمة الأربعة.
وعلى وجه الخصوص، فإن مسائل الطلاق والعقود والزيارات الشرعية وغير الشرعية، كانت سببًا في شيء من الاضطراب بين منتحلي الأقوال الجديدة، وخاصة ضمن مدرسة الإمام ابن تيمية وتلاميذه، وبين آخرين يميلون إلى الحفاظ على الأقوال السائدة بين الفقهاء، والمشهورة لدى العلماء، ويخشون أن يترتَّب على التوسُّع في الاجتهاد والاختيار من أقوال السالفين انتقاض أمر الناس، واضطراب حياتهم.
على أن هذه النزعة من التضييق شهدت قدرًا من الامتداد عند بعض المتأخرين من المصنِّفين، حتى رأينا الصَّاوي في «حاشيته على الجلالين» يرى تحريم تقليد غير الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، والخارج عنده عن المذاهب الأربعة ضال مُضل، وربما أدَّاه ذلك إلى الكفر.
وهي أقوال يغلب على الظن أنها قِيلت وقُصد بها خصوم معارضون يتقصَّدهم القائل، وهذا من حسن الظن بقائلها، والله أعلم.
والواقع أن عمل الفقهاء الكبار في المذاهب، وإن كان يسير ضمن الإطار العام غالبًا، إِلَّا أنه لا يخلو من اختيارات تخالف المذهب، بل تخرج عن أقوال الأئمة الأربعة.
وقد أُتيح لي أثناء خلوتي بالحاير- ما بين سنة (1415هـ) إلى سنة (1420هـ)- قراءة «المغني» بتمعُّن، واستخلاص فوائده واختياراته، ووجدتُ مصنِّفه ينفرد عن الأئمة الأربعة بمسائل شَهِيرة، واختياره فيها في غاية القوة والوضوح؛ مما يدل على ثراء الفقه الإسلامي، وقابليته للتَّجديد، بحسب متغيرات الأحوال والظروف ومستجدات العلوم والمعارف
ومثل هذا تجده في كل مذهب فقهيٍّ، كما في تراث الغزالي والجويني والنووي وابن عبد البر وابن العربي وابن عابدين، والعديد من فقهاء المذاهب؛ لأن أقوال الصحابة والتابعين والأئمة السابقين من فقهاء السلف ليست أقل أهمية، وفيها ثروة عظيمة، وفقه أَصِيل، واستنباط ممن عاصر التنزيل، وهم أهل اللغة، وقد حُفظت أقوالهم، كما في «مصنَّف عبد الرزاق»، و«مصنَّف ابن أبي شيبة»، ومصنَّفات ابن المنذر، وكثير من السنن، كـ«سنن سعيد بن منصور»، و«سنن البيهقي».
وقد جمعها معاصرون وأعدُّوا فيها رسائل علمية، كفقه أبي بكر الصِّدِّيق، وعمر ابن الخطاب، وابن مسعود، وعائشة، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن المسيب، وغيرهم.
والذي يقرأ متغيرات الحاضر الضخمة قد يرى أن توسيع دائرة الاختيار من أقوال السلف خارج الأربعة يبدو أمرًا ملحًّا ومنسجمًا مع الأصول الشرعية؛ فإن التاريخ مؤثِّر في الحكم، وثَمَّ آراء تستقر مؤقتًا، فتصبح ذات هيبة لا أكثر، وربما استدعى الحراك الفقهي الحي المتصل بمتغيرات الزمن الجرأة على معالجتها بروح جديدة علمية، غير خاضعة للمخاوف ولا مستجيبة لمزاج الناس المحض.
إنها اجتهادات جوهرية لرجال القرون المفضَّلة، المنصوص على خيريتها، وهي تضيف مادة جديدة وهائلة للفقه الإسلامي، وتحقِّق له التنوع والاتساع.
لو كان عصر من العصور لا يحتاج إلى استدعاء تلك الأقوال والاعتبار بها، والبناء عليها، فمن اليقين أن هذا ليس هو عصرنا الذي نعيش فيه.
وابن رجب الحنبلي ذاته صنَّف كتابًا سماه: «فضل علم السلف على علم الخلف» ولئن كان العلم خيرًا كله، فإن فضل علم السلف يجري على الأصول والفروع معًا، وخاصة أن فقه الصحابة كان في الفترة الأولى التي ظل فيها الفقه مقترنًا بالحياة بتنوعها وحيويتها وثرائها، وشهدت فقهاء عظامًا، كأبي بكر وعمر ومعاذ وعلي وابن عباس وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 25-27
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: