(الأئمة الأربعة بين الغالي والجافي)
فضيلة الشيخ الدكتور سلمان العودة فرج الله عنه
الحلقة الثالثة عشر
30 شوال 1443ه/ 31 مايو 2022م
من الوضوح أن نقول: إن الكبار المتبوعين أمثال الأئمة الأربعة وغيرهم يقع لهم- ولا بد- مَن يجفو في حقِّهم ويحطُّ من قدرهم، وهو قليل، ويقع لهم مَن يبالغ في الثناء عليهم، حتى يصل إلى شيء يُعَدُّ من الغلو.
ومن ذلك: ما حكاه الميموني عن ابن المديني قال: «ما قام أحدٌ بأمر الإسلام بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قام أحمد بن حنبل. قال: قلتُ له: يا أبا الحسن، ولا أبو بكر الصِّدِّيق؟! قال: ولا أبو بكر الصِّدِّيق؛ إن أبا بكر الصِّدِّيق كان له أعوان وأصحاب، وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب».
ربما كان هذا نوعًا من عتاب الضمير وتوبيخ الذات على القعود عن مناصرة الإمام أحمد، لكن لم يكن سائغًا في نظرنا مقارنة الإمام أحمد بالصِّدِّيق رضي الله عنه الذي نزل القرآن في ذكره: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 40]، وجاءت الأحاديث المتكاثِرة في مقامه، حتى جاء أنه لو وُزن إيمانُه بإيمان الأمة رَجَحَ به.
وسيرد في سيرة كل إمام منهم طرف من ذلك إن شاء الله.
وثَمَّ مَن جفا في حقِّهم وأساء إليهم، كما تكلَّم بعضُهم في حق أبي حنيفة، وفي حق مالك، وفي حق غيرهما، وفي هذا يقول عبد الله بن داود الخُرَيْبِي: «الناسُ في أبي حنيفة رجلان: جاهل به، وحاسد له، وأحسنُهم عندي حالًا: الجاهل».
وهذا قريب من الصواب؛ خاصة إذا فهمنا الجهل هنا بعمومه الذي يعني الجهل بمقام الإمام، وحسن نيته، ولطيف فقهه، وبُعد نظره، مما قد تحول دونه المعاصرة، فـ «المعاصرة حجاب» أو يحول دونه التعصُّب.
والتردُّد في مقام الأئمة بين إفراط وتفريط نجم عنه اضطراب في الموقف من المذهب، ما بين متعصِّب يحصر الحق في مذهبه، ويقاتل دونه بلسانه، وبسيفه إذا لزم الأمر، وما بين صادٍّ عنه، يرى أنه حُكْمٌ بغير الشريعة، ويبالغ في الشناعة على أَتْباعه المقلِّدين.
والحق أن هذا وذاك مما يكاد أن يكون قد انقرض، ولم يعد له وجود معتبر، وصار العامة مقلِّدين أو أَتْباعًا للإمام، لا يشنِّعون على غيرهم، وقلَّ الجدل الفقهي إلى حد بعيد، ولم يعد ثَمَّ صدامات تُرى أو تُسمع بين أصحاب المذاهب الفقهية، وهذا جرى ضمن المتغيرات، وليس بسبب الوعي والفهم والتفوق، ولكنه يظل خيرًا وبركة على الأمة.
وكثيرون ليس لديهم اليوم من الوعي الشرعي ما يمكِّنهم من معرفة انتمائهم الفقهي.
ومن الرشد استثمار هذا المتغيِّر في مراجعة الأقوال وحسن الانتقاء منها، وإشاعة الاجتهاد الجماعي العصري في المسائل المُلِمَّة، ونشر ثقافة الأخذ بالدليل واحترام النص، أما مسائل العبادات المحضة، فأمرها قريب، ولا يضير التفاوت فيها، ما دام يستند إلى حجة أو دليل.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 31-32
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: