الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

(مقام العلم والأخلاق)

د. سلمان العودة

الحلقة الرابعة عشر

ذو القعدة 1443 ه/ 2022م

إن من الأساسيات الراسخة التي أرساها الأئمة: إقرارهم بالاختلاف، وأنه واقع لا سبيل إلى تجاوزه أو إلغائه، ولكن سبيله البحث والعلم والتحرِّي، وهذا معيار لأهمية البناء العلمي الذي بموجبه جرى الخُلْف بينهم.وإقرارهم بالإخاء والحب الذي هو برهان على أهمية البناء الأخلاقي الذي بموجبه جرى التصافي.

وقد نجد من بعدهم مَن اختلفوا فتحاربوا، ونجد مَن توادعوا وتساكنوا، لكن على غير علم ومعرفة.

وقد صرف الأئمة جل وقتهم في التعلُّم والتعليم، وكان أبو حنيفة فقيه أهل العراق بغير منازع، ومالك فقيه المدينة والحجاز، ولم يُفتِ حتى شهد له أربعون من علماء المدينة، وهو من أثبت الناس في الحديث، والشافعي إمام في العديد من العلوم، كاللغة والفقه والأصول، ومن ثقات المحدِّثين، وأحمد كان من الحفاظ الكبار.

كان أبو حنيفة أميل إلى الفقه، وأحمد أميل إلى الحديث، ومالك والشافعي وإن كانا معدودين في مدرسة الحديث، فإن لهما بصرًا وأخذًا في الفقه قلَّ نظيره.

وكان الشافعي يقول: «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة».

وكَتَبَ مالكٌ إلى عبد الله بن عبد العزيز العُمَري، أَنَّ طلب العلم ليس أقل من العبادة، لمَن صَلَحت نيته.

فحفظوا مقام العلم، كما حفظوا مقام الأخلاق، وأيُّ علم بغير أخلاق فهو علم بلا عمل، أو هو صورة العلم لا حقيقته، فإن من أعظم العلم معرفة القطعيات، ومن القطعياتِ القطعياتُ الأخلاقية والعملية؛ ولذا فقد اتفقوا واتفقت الأمة كلها على وجوب محبة المؤمنين بعضهم بعضًا، وعلى تحريم التباغض والتحاسد بين المؤمنين، وعلى أن رباط الإخاء الإيماني لا يزول إِلَّا بزوال أصل الإيمان من القلب، وإن كان يتفاوت بتفاوته، كما اتفقوا على حفظ الحقوق المنصوصة، والالتزام بالأخلاق المفترضة بين الناس.

قال يُونس الصَّدَفي: «ما رأيتُ أعقلَ من الشافعي؛ ناظرتُه يومًا في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، أَلَا يستقيم أن نكون إخوانًا، وإن لم نتفق في مسألة».

وقد يستوحش بعض الشيوخ من الأقوال التي تطرق آذانهم لأول مرة، ولم يسمعوها من أساتذتهم، فينكرونها، ثم يكون الغضب واللَّجاج وتراكم المشاعر السلبية المفضية إلى التفرُّق.

ويحسن في هذا السياق إيراد كلمة الإمام أحمد رحمه الله: «ما زلنا نلعن أهل الرأي ويلعنوننا، حتى جاء الشافعي فمَزَجَ بيننا».

لم يتحوَّل الأمر إلى اصطفاف عقائدي مُؤَدْلَج ضد أهل الكوفة، بحيث يكون مَعْقِد الولاء والبراء عليه، ولا خلط الأئمة بين الأصول الثابتة المحكمة، وبين الفروع المتغيِّرة الاجتهادية، ومن هنا رحَّبوا بمدرسة الإمام الشافعي الجامعة، والتي فيها قبس من مالك، وآخر من أبي يوسف، وشعبة من العراق، وأخرى من الحجاز، وتم لها النضج في مصر، فجمعت ما تفرَّق في البلاد.

وهكذا تكون المدارس التربوية أو الفقهية المتخالفة بحاجة إلى استعداد نفسي صادق لفهم المخالفين والتماس العذر لهم، وترحيب بالمشروع العملي الميداني لتقريب وجهات النظر، أو لتخفيف حِدَّة النزاع.

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 34-32

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://www.alsallabi.com/uploads/books/16527989340.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022