الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

حق النفس وحق الجمهور

د. سلمان بن فهد العودة

الحلقة السادسة عشر

ذو القعدة 1443ه/ يونيو 2022م

إن الرجوع إلى رأي المخالف لا يكون إِلَّا من إمام صادق، مراده الله والدار الآخرة، وهم كانوا كذلك.

لم يذعنوا لأَتْباعهم وتلاميذهم، ولا فتحوا آذانهم لنقل الحديث عن زيد وعبيد، على سبيل الذم والوَقِيعة وإيغار الصدور، ولا حزَّبوا مَن وراءهم على طاعتهم واتِّباعهم وعيب مخالفيهم، لم يكونوا مذعنين لإرادة الطلاب، ولا مأخوذين بكثرتهم، بل كانوا مستقلِّين استقلالًا ذاتيًّا عن الأَتْباع، مع حفظهم لحقوقهم ومقاماتهم.

لقد امتُحِنوا بالسلطان، ثم امتُحِنوا بعد التمكين بالأَتْباع، وما يُحدثونه في النفس من الاغترار، وما يحملون عليه من الموافقة، فهم أحيانًا قائد في صورة مقود، ومتبوع في زي تابع، وهيبة الجمهور لا تقل عن هيبة السلطان، بيد أن هؤلاء الأئمة لم يكونوا متعاقدين مع أَتْباعهم على المجاملة والتربيت ومسايرة القناعات الجماعية، فقد طووا نفوسهم عن شريحة من الناس تضيِّع الوقت، وتُفرط الأعمار في القيل والقال، يقول أبو بكر بن عَيَّاش: «لقي أبو حنيفة من الناس عنتًا؛ لقلة مخالطته الناس، فكانوا يرونه من زَهْوٍ فيه، وإنما كان ذلك غَرِيزة فيه».

وكان عبد الله بن أحمد يصف والده بأنه أصبر الناس على الوَحدة، وكان يقول: «رأيتُ الخَلوةَ أروحَ لقلبي». ويقول: «أشتهي ما لا يكون! أشتهي مكانًا لا يكون فيه أحدٌ من الناس».

وقيل له في آخر عمره: يقال إنه زهد في الناس! فقال: «ومَن أنا حتى أزهدَ في الناس؟! الناسُ يريدونَ أن يزهدوا فيَّ!».

وقال له رجل: جزاك الله عن الإسلام خيرًا، فقال: «بل جزى الله الإسلامَ عني خيرًا».

وقال أبو جعفر محمد بن الحسن بن هارون: «رأيتُ أبا عبد الله إذا مشى في الطريق، يكره أن يتبعه أحدٌ».

وقال الشافعي رحمه الله:

إذا لم أَجِد خِلًّا تَقِيًّا فَوَحدَتي *** أَلَذُّ وَأَشهى مِن غَوِيٍّ أُعاشِرُه

وقال:

لم أَجِدْ لذَّةَ السَّلامةِ حتَّى *** صرتُ للبيتِ والكتابِ جليسا

إنما الذُّلُّ في مخالطةِ النَّا *** س فدعهم تعشْ أميرًا رئيسا

إن ارتهان الفقيه أو العالِم لفئة محيطة به، يَحُولُ بينه وبين الآخرين ممن ليسوا من تلك الطبقة، بل يَحُولُ بينه وبين نفسه، فتغدو حسابات المصالح والمفاسد، وما يجب أن يُقال وما لا يُقال، وما يَجمع وما يُفرِّق، وما يُحدث البلبلة وما لا يُحدثها، مقيسًا بالفئة المحدودة القريبة من العالِم، وهي «البطانة» في المصطلح الشرعي.

وهما بطانتان، كما في الحديث: «ما بَعَثَ الله من نبيٍّ، ولا استَخْلَفَ من خَليفة، إِلَّا كانت له بِطَانتان: بِطانةٌ تأمرُهُ بالمعروف وتَحُضُّهُ عليه، وبِطانةٌ تأمرُهُ بالشرِّ وتَحُضُّهُ عليه، فالمعصومُ مَن عَصَمَ الله تعالى».

لقد غدا من الضروري أن يكون للعالِم المؤثِّر والفقيه المعتبَر «مكتب شخصي» يتولَّى أموره المعرفية، من الكتب والمؤلَّفات والطباعة والبرامج ومواكبة الجديد، وترتيب الأعمال، وضبط الوقت.. ليتحوَّل الفرد إلى مؤسَّسة صغيرة تكبر مع الوقت، وتخلف من بعدها صفًّا آخر من المتفقِّهين والمتعلِّمين، وتحقِّق معنى التوريث في الفقه والإمامة الشرعية.

وغدا من الضروري أن تضبط المؤسَّسة الشرعية وأفرادها نوع العلاقة مع الجمهور؛ لئلا ينفصلوا عنهم، فيقل التأثير، وينفصل الفقيه أو العالم عن إدراك المستجدات في عقول الجمهور وآرائهم وأذواقهم ومشكلاتهم وأسئلتهم، أو ينحازوا لهم، فتتقلص حريتهم الفكرية والقولية، ويقع الاستسلام لفئة من الناس، تحرم فئات أخرى هي أشد حاجة من نفس العالم وتعاطيه مع قضاياهم.

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 38-36

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://www.alsallabi.com/uploads/books/16527989340.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022