الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

(تنوُّع الطِّباع والأَمْزجة)

بقلم: د. سلمان العودة

الحلقة السابعة عشر

ذو القعدة 1443ه/ يونيو 2022م

يجب الإيمان بحق الناس- ومنهم الأعيان والأئمة والقادة- في أن يعيشوا حياتهم الشخصية والعائلية، ويتمتَّعوا بها كغيرهم، وأَلَّا يكون انغماسهم في العلم والتعليم سببًا في حرمانهم من الحق الطبيعي الذي حكاه الله عن أنبيائه: (لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) [الفرقان: 20]، (وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) [الرعد: 38]، والفقه ليس عزلة ولا رهبانية ولا تنكُّرًا للفطرة.

وهنا يلحظ الباحث في المقارنة تفاوت هؤلاء الأعلام في التكوين النفسي، والميل والمزاج والطبيعة؛ فهذا يحب الاجتماع، وذاك يفضِّل الوَحدة، وفيهم مَن يميل إلى البساطة والتواضع والبَذَاذة في ملبسه ومأكله ومسكنه، وغيره يميل إلى الجمال والزينة، في حدود ما أحل الله، وفيهم مَن يتَّجه فكره إلى الحذر والتحوُّط، وآخر يتَّجه إلى العذر وملاحظة الحاجة والتسامح..

وهكذا هم الأئمة:

* كان مالك رحمه الله يعتني بلباسه أتم عناية، ويفسِّر ذلك بأنه إعظام العلم، ورفعة العالِم، ويقول: «إن من مُروءة العالِم أن يختار الثوب الحسن، يرتديه ويظهر به، وأنه لا ينبغي أن تراه العيون إِلَّا بكامل اللِّباس، حتى العمامة الجيِّدة».

وقد كان يلبس أجود اللباس وأغلاه وأجمله مما يليق به، من الثياب العَدَنِيَّة الجياد، والثياب الخُراسانية والمصرية المرتفعة.

قال بشر بن الحارث: «دخلتُ على مالك، فرأيتُ عليه طَيْلَسانًا يساوي خمسمئة، قد وقع جناحاه على عينيه، أشبه شيء بالملوك!».

وكان مالك يقول في الصوف الغليظ: «لا خير في لبسه، إِلَّا في سفر، كما لبسه النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه شهرة- يعني: تظاهر بالزهد- وإنه لقبيح بالرجل أن يعرف دينه بلباسه!».

وكان ينقل عن فقهاء المدينة أنه أدركهم وما يلبسون إِلَّا الثياب الحسان، ويقول: «ما أحب لأحدٍ أنعم الله عليه، إِلَّا ويُرى أثر نعمته عليه، وخاصة أهل العلم، ينبغي أن يظهروا مروءاتهم في ثيابهم؛ إجلالًا للعلم!».

قال إسماعيل بن أبي أُويس: «بِيْعَ ما في منزل مالك يوم مات من بَرَاذع وبُسُط ومَخَادَّ محشوة بريش وغير ذلك بما ينيف على خمسمئة دينار».

وقد أُحصي ما ترك فوُجد خمسمئة زوج من النعل، ومئة عمامة، وترك من الذهب والفضة ألفين وستمئة وتسعة وعشرين دينارًا، وألف درهم.

وقد لا يخلو هذا النص من مبالغة، والله أعلم.

قال الذهبيُّ: «قد كان من الكُبراء السُّعداء، والسَّادة العلماء، ذا حِشمة وتجمُّل وعَبِيد، ودار فاخرة، ونعمة ظاهرة، ورِفعة في الدنيا والآخرة، كان يقبل الهدية، ويأكل طيِّبًا، ويعمل صالحًا».

كلام الذهبي تأصيل للمبدأ، ودفاع عن المسلك، وتذكير بقوله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ) [المؤمنون: 51]، وبحديث: «أيها الناس، إن الله طيِّب لا يقبل إِلَّا طيِّبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون: 51]. وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة:172]». وبحديث: «إن الله يحبُّ أن يَرَى أَثَرَ نعمته على عبده».

هو إذًا مسلك شرعي، ومن الخطأ أن يُعاب العالم بغناه، وكأنه يراد له أن يكون فقيرًا مُعْوِزًا، أو يُعاب العالِم بحسن مظهره، وكأن البؤس علامة التقوى، أو يُعاب برعايته للجَمَال، وكأننا لم نسمع مدح الجمال وأهله.

* وثَمَّ مسالك أخرى يُيَسَّر لها آخرون، كالبساطة والتواضع في الملبس والاقتصاد.

ومن هذا الباب أن أحمد رحمه الله كان يرهن نعله عند خبَّاز على طعام أخذه منه، وباع جُبَّته مرة ليقتات بها.

وذكر المَرُّوْذِيُّ أن أحمد أعطاه خُفَّه ليصلحه، وقد لبسه سبع عشرة سنة، فإذا فيه خمسة مواضع أو ستة، الخَرْزُ فيها من بَرّا، أي: من الخارج.

* ويبدو أن الشافعيَّ وأبا حنيفة كانا أميل إلى طريقة مالك في اللبس.

هل كان هذا دأبًا ورثوه عن شيوخهم وتلقَّوه عن أساتذتهم؟

هذا قريب، كما ذكر مالك رحمه الله أنه أدرك شيوخه وما يلبسون من الثياب إِلَّا الحسان، وكأن هذا هديًا وعادة لفقهاء المدينة، يتوارثونه فيما بينهم.

ويُنسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

أَجِدِ الثيابَ إذا اكتسيتَ فإنها *** زَيْنُ الرجال بها تُعَزُّ وتُكْرَمُ

ودَعِ التواضعَ في الثياب تَحَوُّبًا *** فالله يعلم ما تُجِنُّ وتَكْتُمُ

ويساعد على هذا طبيعة البلد؛ من حيث الرخاء الاقتصادي، والوفرة المعيشية، والرَّفاهية التي وصل إليها، فليس هو تكلُّفًا لمفقود، ولا إثقالًا للنفس بما لا تقدر ولا تطيق.

وطبيعة الأسرة التي يعيش فيها الإمام وينتمي إليها لها اعتبار؛ فأبو حنيفة تاجر، ومالك كذلك، وأحمد كان يتيمًا فقيرًا، فآثر الحال التي هو عليها، دون تكَلُّف أو تطلُّع إلى ما عند غيره، واختار مقام الصبر، وكان يقول: «إنما هو طعامٌ دون طعام، ولباسٌ دون لباس، وصبر أيام قلائل».

ولابد أن التكوين الشخصي يتقبَّل هذا، فمن الناس مَن هو مجبول على حب الأشياء الحسنة والاستمتاع بها، ومنهم مَن هو أميل إلى الزهد والإعراض والتبذُّل؛ ولذا جاء في السنة الإشارة إلى هذا وإلى هذا، ففي الحديث: «البَذَاذةُ من الإيمان».

وهو محمول على التبسُّط في الملبس والمأكل لمَن لا يقدر، أو لمَن يكون طبعه إليه أميل مع النظافة والطهارة.

وفي الحديث الآخر: «إن اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ». وقد قال هذا لمَن كان يحبُّ أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة، فطبعه أميل إلى الحسن والجمال حتى في النعال.

والمجتمعات فيها هذا وهذا، فلكلٍّ ما يناسبه، والغالب على الناس هو الميل للعناية بالملبس والمركب والمسكن والطعام، وهو حَسَنٌ وارد في الكتاب والسنة: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ...) [الأعراف:32].

ووجود الصِّنفين يعني تعدُّد الطرق في الطاعة بحسب الطبع، وبحسب الإمكان، ليس في المظهر فحسب، بل في أشياء عديدة، فحمل الناس على طريق واحد فيه عُسْر ومشقة وغفلة عن تفاوت الطباع واختلافها.

ومثل هذا قد يقال في المنصب والوظيفة، فلا يذم أو يمدح مطلقًا بها أو بدونها، وإنما العبرة بما يلائم الطبع ويكون أقرب لتحقيق المصلحة.

وكذلك الشهرة والخمول، فمن الناس مَن تفسده الشهرة وتضره، ومنهم مَن لا تزيده إِلَّا خيرًا ونفعًا للخلق، مع معرفته بذاته وعدم اغتراره بما يقوله الآخرون.

وكذلك الرئاسة والتصدُّر تصلح لأقوام ولا تصلح لآخرين، وقد استفاض عن أحمد التبرُّم من الشهرة والتصدُّر، بينما كان أبو حنيفة يقول في قصة انفراده عن شيخه: «نازعتني نفسي الطلب للرئاسة». وقعد مالك زمنًا للناس يغشاه الملوك والطلبة والعوام، ثم اعتزل وترك ذلك كله.

واليوم أصبح «علم الطِّباع» فنًّا قائمًا بذاته، يدرس أصول الجِبلَّة الإنسانية وأسبابها، وتفاوت الناس فيها، كما يدرس تأثير ذلك في القائد أو الزعيم.

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 42-38

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://www.alsallabi.com/uploads/books/16527989340.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022