الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

مفردات (لكل إمام أصل انفرد به)

الدكتور سلمان بن فهد العودة

الحلقة الثامنة عشر

ذو القعدة 1443ه/ يونيو 2022م

لكل إمام أصل انفرد به عمَّن سواه، إما من حيث القول به، أو من حيث إظهاره وإشهاره وتصدُّره في فقهه.

كما كان مالك رحمه الله يجعل عمل أهل المدينة حُجَّةً، ويراه من السُّنة؛ لأنه لابد أن يكون معتمدًا على دليل، وكان يُقدِّمه على القياس، وعلى خبر الآحاد حينًا.

وقد بعث إلى اللَّيْث بن سعد عالم مصر وإمامها رسالة قال فيها: «بلغني أنك تُفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه... وإنما الناس تبعٌ لأهل المدينة؛ إليها كانت الهجرة، وبها تنزَّل القرآنُ...». وفيها: «فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرًا معمولًا به؛ لم أر لأحد خلافه..».

وقد ردَّ عليه اللَّيْث بن سعد برسالة تعبِّر عن مسلك آخر لا يتفق ورؤية مالك، ذكر فيها أن الناس تَبَعٌ لأهل المدينة الذين مَضَوْا؛ لأن القرآن نزل بين ظهرانيهم، أما بعد أن خرج الكثير من السابقين في الجهاد، وتفرَّقوا في الأمصار، واختلفوا في أمور كثيرة، فلم يعد ما عليه أهل المدينة يُترك لأجله الخبر والقياس.

وتفرَّع عن هذا الأصل مسائل كثيرة، مثل أن المصَّة والمصَّتين في الرَّضاع تُحرِّم، ولم يعمل بحديث عائشة رضي الله عنها الصحيح في أن التحريم يكون بعشر رضعات، ثم نُسخن من ذلك بخمس، ومع روايته للحديث قال: «وليس على هذا العملُ».

ومثله نفي خِيار المجلس، وقوله عقب رواية حديثه الصحيح: «وليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معلوم به فيه».

وقد نازع الجمهورُ مالكًا في حجِّية عمل أهل المدينة، وقالوا: عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار، ولا فرق بين عملهم وعمل أهل الحجاز والعراق والشام، وإذا اختلف علماء المسلمين لم يكن عمل بعضهم حجة على بعض، وإنما الحجَّة اتباع السنة.

وألَّف ابن تيمية كتابًا في «عمل أهل المدينة»، وحكى الخلاف في المسألة ابن القيم في «إعلام الموقعين»، و«زاد المعاد».

وهي مسألة طويلة الذيول، ويمكن اعتبارها في عصور السلف الأولين من المرجِّحات في مسائل لها ثبات واستقرار ولا يُسرع إليها التغيير، كما في قصة الصَّاع، ورجوع أبي يوسف لمذهب مالك؛ فقد اختلفوا في قدر الصَّاع، والصَّاع النبوي أربعة أمداد، والمُد ما تتسع له يد الإنسان المعتدل حين يضم بعضها إلى بعض من البُر ونحوه، ومقداره رطل وثلث رطل من الأرطال البغدادية، فيكون الصَّاع النبوي خمسة أرطال وثلث رطل بالبغدادي، وهذا هو قول الحنابلة والمالكية والشافعية وأبي يوسف من الحنفية.

وخالف الحنفية في ذلك، فقالوا: إن الصَّاع ثمانية أرطال. وكان أبو يوسف يقول بقول أبي حنيفة، فقدم من الحج، فقال: إني أريدُ أن أفتحَ عليكم بابًا من العلم همَّني، وتفحَّصت عنه، فقدمتُ المدينةَ فسألتُ عن الصَّاع، فقالوا: صاعنا هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلتُ لهم: ما حجتكم في ذلك؟ فقالوا: نأتيك بالحجة غدًا. فلما أصبح، أتاه نحو من خمسين شيخًا من أبناء المهاجرين والأنصار، مع كل رجل منهم الصَّاع تحت ردائه، كل رجل منهم يخبر عن أبيه أو أهل بيته أن هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرتُ فإذا هي سواء، قال: فعايرتُه فإذا هو خمسة أرطال وثلث بنقصان معه يسير، فرأيتُ أمرًا قويًّا، فقد تركتُ قول أبي حنيفة في الصاع وأخذتُ بقول أهل المدينة.

وقد انفرد أبو حنيفة وأحمد في رواية بالتفريق بين الفرض والواجب، فالفرض عندهم ما عُرف وجوبه بدليل قطعي موجِب للعلم والعمل قطعًا، أما ما عُرف وجوبه بدليل ظني، فهو الواجب عندهم.

فمدار الفرض عندهم لغة على القطع، وشرعًا على ما ثبت بدليل موجِب للعلم قطعًا من الكتاب أو السنة المتواترة أو الإجماع.

ومدار الواجب عندهم لغة على السقوط واللزوم، وشرعًا على ما يكون دليله موجبًا للعلم، فيثبت الواجب عندهم بدليل ظني.

وأما الجمهور فلا فرق عندهم بين الفرض والواجب.

وهو تفريق حسن، يمكن التمييز بموجبه بين مسائل في الصلاة والحج وغيرها يقال بوجوبها وليس فيها نصٌّ صريح.

كما تفرَّد كل إمام بمسائل لم يوافقه عليها الآخرون، تسمَّى بـ«المفردات»، وصنَّف فيها العلماء، كقول الحنفية بأنه لا قصاص على مَن قَتل بالخنق، وكره مالك التطوع بالحج، وقول الشافعية بجواز أن تكون الطهارة بالماء أو بالتيمم- لجواز لبس الخفين على طهارة- ولكن ليس لفقد الماء مثلًا، بل لعدم القدرة على استعماله، وكقول أحمد بالوضوء من لحم الإبل.

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 44-42

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://www.alsallabi.com/uploads/books/16527989340.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022