العلم للعمل .. مبدأ عند الأئمة
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة العشرون
08 ذو القعدة 1443ه/07 يونيو 2022م
من الكلمات الذهبية المأثورة عن مالك، أنه كان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، ويحكى كراهته عمَّن تقدَّم من السلف والعلماء.
وكان يُوصِي الطالب بالبحث والاشتغال فيما ينفعه في يومه وليلته.
وبجلالته وهيبته كان يعرض عن كثير من التساؤلات الفضولية المتقحِّمة في المجالس دون بصيرة، وربما وبَّخ صاحبها؛ حفاظًا على هيبة العلم ومكانته، خاصة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يأمر السائل فيُخرَج من الحلقة إن بدا أنه قصد إلى الاستخفاف أو تجاوز حد الأدب مع النصوص.
وعند دراسة سير الأئمة الأربعة ومشاهير العلماء، تجد هذا ظاهرًا عند المتقدِّمين، فلم يغرقوا في افتراض مسائل صورية أو نظرية لا تَمُتُّ للواقع بصلة، ولا أوغلوا في جدليات غيبية مما لم يوقفهم عليه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
حتى نصوص الأسماء والصفات كانوا يُمِرُّونها كما جاءت، ويقرؤونها كما وردت، ويؤمنون بها على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يؤوِّلونها، ولا يكيِّفونها، وهذا حافَظَ عند الأولين على هيبة النص وجلالته، وأضفى تأثيرًا قدسيًّا في النفوس والأرواح، ووفَّر العقول أن تشتغل بالغيبيات التي لا تملك في معرفتها، إِلَّا ما جاءت به النصوص المحكمة، وحفظ الناس من الجدل العقيم فيما لا طائل وراءه.
* وجاء مِن بعد الأئمة مَن شُغلوا بالتفريعات، وبالغوا فيها، بحجة تصوير المسائل، مع أنها إذا وقعت فسيكون علماء الزمان الذي وقعت فيه قادرين بإذن الله على فهمها وتنزيلها على الحكم المناسب، ووصلها بالنص الذي يستوعبها، أو القاعدة التي تنتظمها.
* وآخرون شُغلوا بالجدل والكلام في الإلهيات والعقائد، حتى صار هذا العلم جافًّا، لا يفيض بالحب والخوف والرجاء الذي كان عند الأولين من الصحابة وأتباعهم، والأئمة الأربعة وأضرابهم، بل هو كعلم الرياضيات، سوى أنه يزيد العقول حيرة وتردُّدًا، وكلما أقبل المرء على عبادته وصلاته حضرت عنده المجادلات والمناظرات وعقد المجالس وأفحم الخصوم.
وكلما أقبل على القرآن وقف عند رؤوس الآي، لا ليعتبر ويتخشَّع، ولا ليعرض حوادث الزمان ونوازله، ولا ليبحث عن مخرج لأزمة أو حل لمعضلة، بل ليستحضر كل ما قيل في قوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)، ويحاول أن يستذكر الفِرَق وأقاويلها، ويستعيد الردود، ثم تعرض له الشبهات.. هذا كله قبل أن يستتم قوله تعالى: (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) [المائدة:64]. قبل أن يستحضر رحمة أرحم الراحمين وجوده وكرمه وعطاءه؛ ليسأله ويتضرَّع إليه ويُنْزِل به حاجاته، وربما انفتل من قراءته أو فرغ من صلاته ولم يبق في ذاكرته إِلَّا مجلس المناظرة الذي عقده.
وكيف لا.. وهذه دراسته منذ نعومة أظفاره، وهذا الذي وقر في نفسه، وتردَّد صداه في أذنه، ومرَّت على حروفه عيناه غير مرة!
فإذا سمع مَن يذكِّره أو يوقظه، ظن أن الأمر يتعلَّق بتغيير اعتقاده، وصرفه عن طريقته، أو إحداث أمر يضره في ديانته!
* وفئة ثالثة عزلت نفسها عن متغيرات الزمان ومستجدات الأحوال، ونأت عن فهم المعادلة الدولية في النهوض والسياسة والاقتصاد والقوة المعرفية والقوة العسكرية.. وظلَّت تتحدَّث عن قضاياها، وكأنها في عصر التمكين، أو أن نظام الخلافة على وشك التدشين، وهي غير قادرة على التعاطي مع الأمر القائم، فضلًا عن الانتقال إلى ما هو أفضل.
وما ذاك إِلَّا لعجز العقول عن الاجتهاد، فهي تتعاطى مع النتائج النهائية التي أقرَّها السابقون؛ لأنها تلقتها وتلقَّفتها، وتظل غير قادرة على القياس عليها، أو مراعاة عللها وأسبابها، أو تقدير الضرورات والأحوال القسرية بقدرها.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 48-46
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: