السبت

1446-06-27

|

2024-12-28

الأئمة الأربعة من فطاحلة الأدب والشعر

اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: الثانية والعشرون

10 ذو القعدة 1443ه/09 يونيو 2022م

من طريف المقارنة، ما يتعلَّق بالموقف من الأدب والشعر، فقد كان الشافعي عربي اللسان والنَّسب والدار والعصر، واشتغل بعلوم العربية عشرين عامًا، حتى صار إمامًا من أئمتها، وحُجَّة من حججها، وشهد له بذلك الإمام أحمد وأبو عُبيد والمازني ويُونس بن عبد الأعلى وابن هشام وغيرهم.

قال الزَّعْفَراني: «ما رأيتُ الشافعيَّ لحن قطُّ».

والزَّعْفَراني هو: أبو علي الحسن بن محمد بن الصَّبَّاح، راوي كتب الشافعي القديمة، وكان يقول: «ما حمل أحدٌ مَحْبرة، إِلَّا وللشافعي عليه مِنَّة».

ورُويت هذه الكلمة أيضًا عن الإمام أحمد.

وقال الرَّبِيع بن سُليمان المُرادي، من تلاميذ الشافعي: «كان لسان الشافعي أكبر من كتبه».

وهي كلمة نادرة من صاحبٍ مُعايشٍ، مراده أن اللغة الخطابية لدى الشافعي أبلغ مما في مصنفاته، وهذا يمكن أن يكون حقيقة، ويمكن إرجاعه إلى تذوق الرَّبيع للغة المنطوقة من شفتي إمامه أكثر مما يجده في كتبه، وللشافعي قصائد وأشعار سائرة، ويُنسب له ديوان شعر مطبوع، وقد قام بجمع شعره غير واحد.

ومما يُؤْثَر عنه قوله:

ولولا الشِّعرُ بالعلماءِ يُزْرِي *** لكنتُ اليومَ أَشْعَرَ من لَبِيدِ

ومن مأثور شعره:

ما في المُقَام لذي عقلٍ وذي أَدَبِ *** من راحةٍ فدعِ الأوطانَ واغتربِ

سافرْ تجد عوضًا عمَّن تفارقهُ *** وانصَبْ فإنَّ لذيذ العيشِ في النَّصَبِ

إني رأيتُ وقوفَ الماء يُفسدهُ *** إن ساحَ طابَ وإن لم يجرِ لم يطبِ

والأُسدُ لولا فِراقُ الأرض ما افترست *** والسَّهمُ لولا فِراقُ القوسِ لم يصبِ

والشمسُ لو وقفت في الفلكِ دائمةً *** لمَلَّها النَّاسُ من عُجمٍ ومن عربِ

والتِّبرُ كالتُّرب مُلقًى في أماكنهِ *** والعُودُ في أرضه نوعٌ من الحطبِ

فإن تغرَّب هذا عزَّ مطلبهُ *** وإن تغرَّب ذاكَ عزَّ كالذَّهبِ

وشعره في الدعاء مشهور:

أتهزأُ بالدُّعاءِ وتزدريهِ *** وما تدري بما صنعَ الدُّعاءُ

سِهامُ اللَّيلِ لا تُخطي ولكن *** لها أمدٌ وللأمدِ انقضاءُ

وله عند موته قصيدة مؤثِّرة يقول فيها:

إليكَ إلهَ الخلقِ أرفعُ رغبتي *** وإن كنتُ ياذا المَنِّ والجودِ مُجْرما

ولَّما قسا قلبي وضاقتْ مذاهبي *** جعلتُ الرَّجا منِّي لعفوكَ سُلَّما

تَعَاظَمني ذنبي فلمَّا قرنتهُ *** بعفوِك ربي كان عفوُكَ أعظما

فما زلتَ ذا عفوٍ عنِ الذَّنبِ لم تزلْ *** تجُودُ وتعفُو مِنَّةً وتكرُّما

فلولاكَ لم يصمدْ لإبليسَ عابدٌ *** فكيفَ وقد أغوى صفيَّكَ آدما

فلله درُّ العارفِ النَّدبِ إنَّهُ *** تفيض لفَرطِ الوجدِ أجفانُهُ دما

يُقِيمُ إذا ما الليلُ مدَّ ظلامُهُ *** على نفسهِ من شدَّة الخوفِ مأتما

ومالك كان عربيًّا من دار الهجرة، وكان فَصِيح اللسان، جَزْل العبارة، وله مأثورات من الحكم ونوادر الأقوال، لا تصدر إِلَّا عن عقل فذٍّ ولسان بَلِيغ.

وتُنسب لمالك أبيات لا تظهر عليها لغة عصره، ومنها القصيدة الوعظية الشهيرة التي مطلعها:

أنا العبدُ الذي كَسَبَ الذُّنُوبَا *** وصَدَّتْهُ الأَماني أن يَتُوبا

ولا أظنها تصح عنه.

وذكر يوسف الصَّفْطي (أو السَّفْطي) المالكي في «حاشيته» عن مالك:

إذا رفعَ الزمانُ مكانَ شخصٍ *** وكنتَ أحقَّ منه ولو تصاعَدْ

أَنِلْه حقَّ رتبتِه تجدْه *** ينيلُك إن دنوتَ وإن تباعدْ

ولا تقلِ الذي تدريهِ فيه *** تكنْ رجلًا عن الحسنَى تَقَاعدْ

فكم في العُرْسِ أبهى من عروسٍ *** ولكن للعروسِ الدهرُ ساعدْ

أما أحمد، فينسب له بعضُهم:

إذا ما خلوتَ الدَّهرَ يومًا فلا تقُلْ *** خلوتُ، ولكن قُل عليَّ رقيبُ

ولا تَحْسبنَّ الله يغفلُ ساعةً *** ولا أنَّ ما يَخْفَى عليه يغيبُ

غفلنا عن الأيام حتَّى تداركتْ *** علينا ذُنُوبٌ بعدهُنَّ ذُنُوبُ

فيا ليتَ أنَّ الله يغفرُ ما مضَ *** ويأذنُ في توباتنا فنتُوبُ

وهي لأبي نُوَاس- كما في «ديوانه»- اجتمع به أحمد وسمعها منه، وكان يتمثَّل ببعض أبياتها، وخاصة البيت الأخير:

إذا ما مضَى القرنُ الذي أنت فيهمُ *** وخُلِّفتَ في قرنٍ فأنتَ غريبُ

ونُسبت إلى غير أبي نُوَاس أيضًا.

وينسب آخرون لأحمد قصيدة مشهورة في الاعتقاد مطلعها:

يا سائلي عن مَذْهبي وعقيدتي *** رُزِقَ الهُدى مَن للهداية يَسْأَلُ

ولا تصح البتة عن الإمام أحمد، وهي منسوبة إلى ابن تيمية، وفي آخر أبياتها:

هذا اعتقادُ الشافعيِّ ومالكٍ *** وأبي حنيفة ثمُّ أحمد يُنقَلُ

مما يؤكِّد أن كاتبها متأخر، وربما التبس المعنى على بعضهم من قوله: (ثم أحمد يُنقلُ). فظن أن المقصود أن أحمد بن حنبل هو ناقل هذا الاعتقاد عن الأئمة، وهذا خطأ، وأحمد لا ينقل الاعتقاد عن هؤلاء الأئمة، بل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا الترتيب هو ترتيب المتأخرين.

والإمام أحمد عربي من بَكْر بن وائل، وقَلَّ عربي إِلَّا يقول البيت أو البيتين، ويتذوَّق الشعر.

وقد سأل أبو حامد الخُلْقاني أحمدَ عن النشيد والشعر، فقال له: مثل أي شيء؟ قال:

إذا ما قال لي رَبِّي: *** أما اسْتَحْيَيْتَ تعصيني

وتُخْفِي الذنبَ من خَلْقي *** وبالعصيانِ تأتيني

فقال أحمد: أعد عليَّ. فأعادها عليه، فقام أحمد ودخل بيته وهو يبكي ويردِّد الأبيات.

كما ذكرت بعض المصادر حوارًا شعريًّا بينه وبين الشافعي، قال فيه الشافعيُّ:

قالوا: يزورُك أحمدٌ وتزورُه *** قلتُ: الفضائلُ لا تغادرُ منزلَهْ

إن زارني فبفضلِه أو زرتُه *** فلفضله فالفضلُ في الحالين لَهْ

فردَّ عليه أحمد:

إنْ زرتَنا فبفضلٍ منك تمنحنا *** أو نحن زُرْنا فللفضلِ الذي فيكا

فلا عدِمْنا كلا الحالين منك ولا *** نالَ الذي يتمنَّى فيك شانيكا

وقد ذكر هذه الأبيات السَّفَاريني الحنبلي في «غذاء الألباب».

أما أبو حنيفة، فلم يكن عربيًّا، ولا يُحفظ له شعر قاله، وقلَّما يتمثَّل بالشعر.

وتتداول بعض المواقع الإلكترونية قصيدة رَكِيكة الألفاظ، رديئة المعاني، يزعمون أن أبا حنيفة أنشدها عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومطلعها:

يا سيدَ الساداتِ جئتكُ قاصدًا *** أرجو رضاكَ وأحتمي بحِماكا

والله يا خيرَ الخلائقِ إنَّ لي *** قلبًا مَشُوقًا لا يرومُ سِواكا

وبحقِّ جاهك إنَّني بكَ مُغْرَمٌ *** والله يعلمُ أنني أهواكا

والقصيدة موضوعة، بعيدة عن لغة ذلك العصر وعن أسلوبه، وفيها معانٍ منكرة لا تَمُتُّ للإمام أبي حنيفة بصلة، وهي في «المستطرف» لشهاب الدين الأَبْشِيْهِي منسوبة للمؤلِّف نفسه.

ولا يحتاج قارئ القصيدة إلى كبير جهد ليكتشف أنها منحولة، لا تليق بمقام الإمام ولا مَن دونه.

وفيها سردٌ لما يعتقد أنه معجزات نبوية، بعضها صحيح ثابت، وبعضها من تزيُّد الغلاة.

 

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 53-49

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://www.alsallabi.com/uploads/books/16527989340.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022