من الصفات القيادية في شخصية نورالدين زنكي ... تجرُّدُهُ وزهده الكبير
بقلم: د. علي محمد الصلابي
فهم نور الدين محمود زنكي ـ رضي الله عنه ـ من خلال معايشته للقرآن الكريم، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة؛ بأنَّ الدنيا دار اختبار، وابتلاء، وعليه فإنَّها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرَّرَ من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها، وخضع، وانقاد، وأسلم نفسه ظاهراً وباطناً، ومن هذه الحقائق:
* اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبـه بالغربـاء، أو عابري سبيل، كمـا قـال النبي صلى الله عليه وسلم : «كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل» (1).
* وأن هذه الدنيا لا وزن لها، ولا قيمة عند رب العزَّة إلا ما كان منها طاعة لله ـ تبارك وتعالى ـ إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء (2)، ألا إنَّ الدُّنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه، أو عالماً، أو متعلِّماً» (3).
* وأنَّ عمرها قد قارب على الانتهاء؛ إذ يقول صلى الله عليه وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه: السبابة، والوسطى» (4).
* وأن الاخرة هي الباقية، وهي دار القرار، كما قال مؤمن آل فرعون: ﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰع وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩ مَنۡ عَمِلَ سَيِّئَة فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَاۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَٰلِحا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِن فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ يُرۡزَقُونَ فِيهَا بِغَيۡرِ حِسَاب﴾ [غافلا: 39 – 40] (5). كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب الملك العادل نور الدين محمود الشهيد، فترفَّع ـ رحمه الله ـ عن الدّنيا وحطامها، وزهد فيهما، وإليك شيئاً من مواقفه:
2 ـ تشبَّه نور الدين محمود بعمر بن عبد العزيز في زهده، وقد كان الأخير حاكماً لأقوى دولة على الأرض في زمنه، فكان نور الدين لا ينفق على نفسه، ولا على أهله، إلا من مُلكٍ اشتراه من سهمه من الغنائم، وكان يُحضر الفقهاء، ويستفتيهم فيما يحلُّ له من تناول الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، فيأخذ ما يفتونه بحله، ولم يتعداه إلى غيره البتة (6).
قال العماد الأصفهاني: «كان رسم نفقته الخاص في كل سنة من جزية أهل الذمَّة مبلغ ألفي قرطاس (7)، يصرفه في كسوته، ونفقته، ومأكوله، ومشروبه، وحوائجه المهمة، حتى أجرة خياطه، وطباخه، ومن ذلك المقرر المعين النزر، ثم يستفضل ما يتصدق به في آخر الشهر، ويفضه على المساكين، وأهل الفقر» ( 8 ).
3 ـ وأما ما يهدى إليه من الثياب، والألطاف، وهدايا الملوك من المناديل، والسكاكين، والمهاميز، والدبابيس، وكل دقيق وجليل لا يتصرف في شيء منه بل يعرض نظره عنه، وإذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي ليحصِّل أثمانها الموفورة، ويصرفها في عمارة المساجد المهجورة (9).
4 ـ ولم يلبس قط ما حرَّمه الشرع من حرير، أو ذهب، أو فضة (10)، وحكي لي عنه: أنه حمل إليه من مصر عمامة من القصب الرفيع مذهَّبةٌ، فلم يحضرها عنده، فوصفت له، فلم يلتفت إليها، وبينما هم معه في حديثها؛ إذ قد جاءه رجلٌ صوفي فأمر له بها، فقيل له: إنها لا تصلح لهذا الرجل، ولو أعطي غيرها لكان أنفع له، فقال: أعطوها له، فإني أرجو أن أعوَّض عنها في الآخرة. فسلمت إليه فسار بها إلى بغداد فباعها بستمئة دينار، أو سبعمئة، وأنا أشك: أنها كانت تساوي أكثر (11).
5 ـ قال رضيع الخاتون «زوجة نور الدين»: إنها قلَّت عليها النفقة، ولم يكفها ما كان قد قرّره لها، فأرسلتني إليه، أطلب منه زيادة في وظيفتها (أي مخصصاتها المالية) فلما قلت له ذلك؛ تنكَّر، واحمرَّ وجهه، ثم قال: من أين أعطيها، أما يكفيها مالها؟ والله لا أخوض نار جهنم في هواها، إن كانت تظن أن الذي بيدي من الأموال هي لي؛ فبئس الظن؛ إنما هي أموال المسلمين، ومرصدة لمصالحهم ومعدَّة لفتقٍ ـ إن كان ـ من عدو الإسلام، وأنا خازنهم عليها، فلا أخونهم فيها! ثم قال: لي بمدينة حمص ثلاثة دكاكين مُلكاً قد وهبتها إياها فلتأخذها. وكان يحصل منها قدر قليل نحو عشرين ديناراً (12).
6 ـ قال ابن كثير: «كان نور الدين عفيف البطن، والفرج، مقتصداً في الإنفاق على أهله، وعياله في المطعم، والملبس؛ حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه، من غير اكتنازٍ، ولا استئثار بالدنيا (13).
وكان عمر الملاّء رجلاً من الصالحين الزاهدين، وكان نور الدين يستقرض منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل له بفتيت، ورقاق فيفطر عليه (14). وكان إذا أقام الولائم العظيمة لا يمدّ يده إليها إنما يأكل في طبق خاصٍّ فيه طعام بسيط (15).
* وأما مقرُّ سكن حاكم الجزيرة، والشام، ومصر، واليمن؛ فكان داراً متواضعة، تطلُّ على النهر الداخل إلى القلعة من الشمال، ألحق بها صُفَّةً يخلو فيها للعبادة، فلما ضربت الزلازل دمشق، بنى بإزاء تلك الصفة بيتاً من الأخشاب. فهو يبيت فيه ويصبح، ويخلو بعبادته، ولا يبرح (16). ولما توفي دفن في البيت البسيط المقام من الأخشاب (17).
7 ـ زهده في الألقاب: عندما تَفْقُدُ قيادةٌ ما القدرةَ على الإسهام الجادّ في حركة التاريخ؛ يتحوّل همها إلى منح النياشين، والألقاب لمن يقدرون من أجل أن تغطي عجزها وانكماشها، لكن رجلاً فاعلاً كنور الدين يرفض هذه المنح خوفاً أن يكون في طياتها الكذب، والمبالغة، والزيف، وخوفاً أن تقوده إلى نوع من الاعتداد، والغرور، كثيراً ما انتهى إليهما القادة العاملون، أما نور الدين الذي علّمه التجرد كيف يكون الرفض؛ فإنه يتمنع حتى النهاية عن الذهاب مع الإغراء إلى ما يريد الشيطان لا ما يريد الله.
تلقَّى يوماً من بغداد هدية تشريف عباسية، ومعها «قائمة» بألقابه التي كان يُذْكَر بها على منابر بغداد:...اللهم أصلح المولى، السلطان، الملك، العادل، العالم، العامل، الزاهد، العابد، الورع، المجاهد، المرابط، المثاغر نور الدين، وعدَّته ركن الإسلام وسيفه، قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها، رضيَّ الإمامة وأثيرها، فخر الملَّة ومجدها، وشمس المعاني وملكها، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محيي العدل في العالمين المظلومين من الظالمين ناصر دولة أمير المؤمنين.
لكن نور الدين أسقط جميع الألقـاب، وطرح دعاءً واحداً يقول: اللهم وأصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي (18). وثمة رواية أخرى تمنحنا مزيداً من الأضواء عن الموضع، وتتضمن كلمات وجملاً من إنشـاء نور الدين نفسه..روي أنه كتب رقعة بخطه إلى وزيره خالد بن القيسراني ـ بعـد أن استفزته كثرة الألقاب ـ يأمره أن يكتب له صـورة ما يدعى لـه بـه على المنـابـر، وكـان مقصـوده صيـانة الخطيب عن الكذب، ولئلا يقول ما ليس فيه، فكتب ابن القيسراني كلاماً ودعا له فيه، ثم قال: وأرى أن يقال على المنبر: «اللهم وأصلح عبدك الفقير إلى رحمتك، الخاضع لهيبتك، المعتصم بقوتك، المجاهد في سبيلك، المرابط لأعداء دينك، أبا القاسم محمود زنكي».
فكان جواب نور الدين: هذا لا يدخله كذب ولا تزيُّد. وكتب بخطه في أعلى الصفحة: مقصودي ألاَّ يكذب على المنبر أنـا بخلاف كل ما يـقال. أفرح بما لا أعمل؟ والتفت إلى وزيره قائلاً: الذي كتبت به جيد، اكتب به نسخاً إلى البلاد (19).
ثم أضاف ثم يبدؤون بالدعاء: اللهم أَرِهِ الحق حقاً اللهم أسعده، اللهم انصره، اللهم وفقه..من هذا الجنس (20).
إن القيادة التي تريد أن تنهض بالأمة، وتمارس فقه النهوض في حياتها عليها أن تمنع كل ما من شأنه أن ينمِّي روح النفاق، والتزلف للمسؤولين؛ لأن ذلك يوفر النقد البنّاء، وحرية الرأي، للشعوب حتى يعرف القادة أخطاءهم، فيصلحوها في حركته النهضوية، وعلى القيادة أن تتصف بالتجرد لله في أعمالها، وتزهد في حطام الدنيا الزائل. لقد كان زهد نور الدين زهد المؤمن الذي لا يرغب في الدنيا، وما فيها من ملذات، وشهوات، ويسعى ويعمل للآخرة دار النعيم والخيرات.
المصادر والمراجع:
(1) سنن الترمذي، كتاب الزهد رقم 2333 وهو حديث صحيح.
(2) المصدر السابق رقم 2320.
(3) المصدر السابق نفسه 2322 حسن غريب قاله الترمذي.
(4) مسلم ، كتاب الجمعة ، باب تخفيف الصلاة رقم 867.
(5) من أخلاق النصر في جيل الصحابة، د.السيد محمد نوح، ص 48 ، 49.
(6) التاريخ الباهر في الدول الأتابكية بالموصل، ابن الأثير، ص 164 دور نور الدين محمود في نهضة الأمة 128.
(7) نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل، ص 39.
( 8 ) نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل، ص 39.
(9) البرق الشامي، عماد الدين الأصفهاني، ص 143 ـ 144 نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل، ص 40.
(10) التاريخ الباهر في الدول الأتابكية بالموصل، ابن الأثير، ص 164 نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل، 40.
(11) التاريخ الباهر في الدول الأتابكية بالموصل، ابن الأثير، ص 165 نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل، ص 40.
(12) التاريخ الباهر في الدول الأتابكية بالموصل، ابن الأثير، ص 164 نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل، ص 40.
(13) البداية والنهاية، ابن كثير، نقلاً عن نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل، ص 41.
(14) البداية والنهاية نقلاً عن نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل، ص 41.
(15) نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل، ص 41.
(16) نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل، ص 41.
(17) البرق ص 153 ـ 154 كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، أبو شامة المقدسي، نقلاً عن نور الدين محمود، عماد الدين خليل، ص 410.
(18) نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل، ص 42.
(19) مرآة الزمان (8/322 ـ 323) نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل، ص 43.
(20) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ماجد عرسان الكيلاني، ص 274.
(21) الدولة الزنكية، علي محمد الصلابي، ط1، مؤسسة اقرأ، القاهرة، 2007، ص 183-198.