(رسالة الإمام مالك بن انس إلى الإمام اللَّيْث بن سعد)
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة:الخامسة والأربعون
ذو الحجة 1443ه/ يوليو 2022م
كتب مالكٌ رحمه الله رسالة في غاية الحسن والإيجاز والبلاغة والإفصاح عن الحجة، والنصيحة لشركاء الطريق، وتجد في سيرة مالك العديد من المراسلات مما لم يتوافر لغيره من العلماء، وهو تطلُّع إلى التواصل الذي لا تحول دونه المسافات والحدود.
وهذا نص الرسالة:
«بسم الله الرحمن الرحيم
من مالك بن أنس إلى اللَّيْث بن سعد.
سلامٌ عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو.
أما بعدُ:
عصمنا الله وإياك بطاعته في السِّرِّ والعلانية، وعافانا وإياك من كل مكروه.
كتبتُ إليك، وأنا ومَن قِبَلي من الولدان والأهل على ما تحب، والله محمود.
جاءني كتابك تذكر من حالك ونعم الله عليك الذي أنا به مسرور، وأسألُ اللهَ أن يستمر علينا وعليك صالح ما أنعم به علينا وعليك، وأن يجعلنا له شاكرين.
وفهمتُ ما ذكرتَ في كتبٍ بعثتَ بها لأعرضها لك وأبعثَ بها إليك، فقد فعلتُ ذلك وغيَّرتُ منها حتى صحَّ أمرُها على ما تحب، وختمتُ على كل قُنداقٍ منها بخاتمي، ونقشه: «حسبي الله ونعم الوكيل».
وكان حبيبًا إِلىَّ حِفْظُكَ وقضاءُ حاجتك، وأنت لذلك أهلٌ، وصبرتُ لك نفسي في ساعاتٍ لم أكن أعرضُ فيها؛ لأن الحجَّ فيها، فتأتيك مع الذي جاءني بها؛ حيث دفعتُها إليه، وبَلغتُ من ذلك الذي رأيتُ أنه يلزمني في حقك وحرمتك.
وقد نَشَّطني ما استطلعتُ مما قبلي من ذلك في ابتدائك بالنصيحة لك، ورجوتُ أن يكون لها عندك موضع.
ولم يكن يمنعني من ذلك قبل اليوم أن لا يكون رأيي لم يزل فيك جميلًا، إِلَّا أنك لم تذاكرني شيئًا من هذا الأمر ولا تكتب فيه إلىَّ.
واعلم- رحمك الله- أنه بلغني أنك تُفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة مَن قِبَلَك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك؛ حَقِيق بأن تخاف على نفسك، وتتَّبع ما ترجو النجاة باتباعه؛ فإن الله عز وجل يقول في كتابه: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:100]. وقال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:17].
وإنما الناس تبعٌ لأهل المدينة؛ إليها كانت الهجرة، وبها تنزَّل القرآنُ، وأُحِلَّ الحلالُ وحُرِّم الحرامُ، إذ رسول الله بين أظهرهم، يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويَسُنُّ لهم فيتبعونه، حتى توفَّاه الله واختار له ما عنده، صلوات الله وسلامه عليه ورحمته وبركاته.
ثم قام مِنْ بعده أَتْبَع الناس له من أمته، ممن ولي الأمر من بعده، فما نزل بهم مما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم، فإن خالفهم مخالف، أو قال امرؤ غيره أقوى منه وأولى، تُرك قوله وعُمل بغيره.
ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون ذلك السبيل، ويتَّبعون تلك السنن.
فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرًا معمولًا به؛ لم أر لأحد خلافه؛ للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادِّعاؤها، ولو ذهب كل أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا، وهذا الذي مضى عليه من مضى منا. لم يكونوا من ذلك على ثقة، ولم يجز لهم من ذلك مثل الذي جاز لهم.
فانظر- رحمك الله- فيما كتبتُ إليك فيه لنفسك، واعلم أني أرجو أن لا يكون دعاني إلى ما كتبتُ به إليك إِلَّا النصيحة لله تعالى وحده، والنظر إليك، والضِّنُّ بك، فأَنْزل كتابي منك منزله، فإنك إن تفعل تعلم أني لم آلك نصحًا.
وفَّقنا الله وإياك لطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر، وعلى كل حال.
والسلام عليك ورحمة الله».
وهنا تظهر شخصية الإمام مالك رحمه الله في قوة مأخذه ووضوح حجَّته، وبلاغة لفظه، كما تظهر قوة شخصيته في تعبيره شبه الملزِم لمَن يراه في مقام الآخذ عنه، وتحذيره من مغبة المخالفة لما يدعو إليه.
وتظهر قوته ومكانته لدى علماء عصره في تصديره الخطاب بقوله: «بلغني أنك تُفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا..». مما يوحِي بأن ثَمَّ ما يُشبه النظام الفقهي المعتبر المحترم الذي لا يسهل تخطيه أو تجاوزه.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 95-99
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: