السبت

1446-06-27

|

2024-12-28

(قصة الإمام مالك مع الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور: دروس وعبر)

اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: السابعة والأربعون

ذو الحجة 1443ه/ يوليو 2022م

كان أبو جعفر المنصور معجبًا بشخصية مالك وعلمه وعقله، وهَمَّ أن يجعله رمزًا للسلطة الدينية، وأن يقلِّده إمامة الناس في الفقه والاتباع.

يقول الإمام مالك: «دخلتُ على أبي جعفر أمير المؤمنين، وقد نزل على مِثَال له- يعني: فَرْشَه- وإذا صبي يخرج ثم يرجع، فقال لي: أتدري مَن هذا؟ قلتُ: لا. قال: هذا ابني، وإنما يفزع من هيبتك. ثم ساءلني عن أشياء منها حلال ومنها حرام، ثم قال لي: أنت والله أعقل الناس وأعلم الناس! قلتُ: لا والله يا أمير المؤمنين. قال: بلى، ولكنك تكتم. ثم قال: والله لئن بقيتُ لأكتبن قولك كما تُكتب المصاحف، ولأبعثن به إلى الآفاق فلأحملنَّهم عليه».

ثم طلب المنصور من الإمام مالك أن يكتب علمه، وبناءً عليه كتب الإمام مالك كتابه العظيم الشهير «الموطَّأ»، وظل يُقرأ عليه ما يزيد على عشرينَ سنة، وهو يصحِّحه وينقِّحه، حتى وُجد له ما يزيد على ثلاثين رواية.

ولكن العبرة في موقف الإمام مالك رحمه الله، فإنه لم يوافق أبا جعفر المنصور على حمل الناس على مذهبه، وقال له كلمة عظيمة مضيئة، تُكتب بماء الذهب: «يا أميرَ المؤمنين، لا تفعل هذا؛ فإن الناسَ قد سبقت إليهم أقاويلُ، وسمعوا أحاديثَ، ورَوَوْا رواياتٍ، وأخذ كلُّ قوم بما سبق إليهم وعملوا به، ودَانُوا به من اختلاف الناس أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرَهم، وإن ردَّهم عما اعتقدوه شديد، فَدَعِ الناسَ وما هم عليه، وما اختار كلُّ أهل بلد منهم لأنفسهم».

ويبدو هنا مالك رحمه الله بصورة مختلفة نوعًا عما في رسالته لليث بن سعد، إما لتأخر خطابه للمنصور، أو لأنه في مقام الامتناع عن إلزام الأمة كلها برأيه، بخلاف خطابه للَّيث، فهو نصيحة شخصية، ولا شك أن هذا الاتساع في حديث مالك مع الخليفة هو الأقرب، تعبيرًا عن فقهه وعلمه وسعته وتقواه.

إنه لموقف عظيم تُؤخذ منه العبر والعظات، وأعظمها أننا نلاحظ عبر التاريخ وجود أصناف من العلماء:

الصِّنف الأول: مَن تمكَّنوا من الموقع السُّلْطَوي، فكانوا يغْشَوْن السَّلَاطين والخلفاء في مجالسهم، والخلفاء يرجعون إليهم في بعض ما أَشْكَل عليهم.

الصِّنف الثاني: الذين أعطاهم الله تعالى التمكين في قلوب العامة، فكانت العامة تنجفل إليهم، وتُقبل على مجالسهم، وتستمع إلى علمهم، وتأخذ بفتواهم، ولا تعدل بهم أحدًا.

ومقتضى أمر الله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46]، أن كلًّا من هذين الصِّنفين كان ينبغي أن ينتفع بما أعطاه الله تعالى وما مكَّنه في تعزيز الطرف الآخر، فالعالِم الذي تمكَّن من أُذن السلطان عليه أن يكون مدافعًا عن أعراض العلماء والدعاة في مجالس السلاطين، محسِّنًا لصورتهم، دافعًا لما يلصق بهم من الأباطيل والتُّهم والأقاويل، حريصًا على أن يكون قلب السلطان نقيًّا لكل مواطن ومؤمن وعالِم وداعية من أهل الخير والحق والهدى، مع حسن النظر للرَّعية والرِّفق بها في قيادتها.

والعالِم الذي مكَّنه الله تعالى من أفئدة العامة حريٌّ به أن يقول للناس حُسنا، وأن يرفعهم إلى أفضل ما يقدر عليه في الوعي والأدب والتقوى، لا أن ينزل إلى مستواهم، وأن يعلِّمهم حسن الظن بمَن لا يوافقونهم، لا أن يُضْرِي العداوة التي هم مستعدون لها أصلًا، فينهاهم عن القالة السوء، التي أقلها حق، وأكثرها باطل.

وأيُّ خير يبقى للأمة إذا انفصل علماؤها عن عامتها، أو انفصل عامتها عن علمائها؟! أو انفصل بعض علمائها عن بعض، وكثرت الوقيعة والقالة السيئة بينهم.

الصِّنف الثالث: مَن هم فوق هذا وذاك، بل هم مع ربهم في ابتغاء طاعته ورضوانه، ومع العلم في بحثه وتجويده، ومع أنفسهم في الانطواء والاستقلال، وعزل النفس عن التأثير الشديد من المحيط، أكان بلاطًا سلطانيًّا، أم اندفاعًا شعبويًّا.

وبهذا يكونون عمود توازن بين مكونات الأمة، وسفراءَ صدقٍ بين الحاكم والمحكوم، ورسل سكينة وتهدئة بين المتخاصمين، ووسيلة لجمع الناس على الأصول المشتركة في الدين، وعلى المصالح المشتركة في الدنيا.

لقد رفض الإمام مالك رحمه الله استخدام السلطة لفرض رأيه الشخصي، وهذا آية العقل عند الإمام مالك والبصيرة وبُعد النظر، والزهد في الجاه والمكانة الدنيوية، فما عند الله خير وأبقى.

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 100-102

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://www.alsallabi.com/uploads/books/16527989340.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022