السبت

1446-06-27

|

2024-12-28

(موقف الإمام مالك من الأغاليط)

اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة:التاسعة والأربعون

ذو الحجة 1443ه/ يوليو 2022م

 

هي القضايا المُشْكِلة التي تحتاج إلى علم غزير، وعقل واسع نافذ، وتبصُّر، وطول تأمُّل، وسعة خبرة ومران.

وكان الإمام مالك يكره الأُغْلُوطات، وهي المسائل الشائكة التي لا نصَّ فيها، أو المسائل التي ظاهر النصوص فيها التعارض وتحتاج إلى بحث ونظر.

قال الأَوْزاعي: «الأُغْلُوطات: شِدادُ المسائل وصِعابُها».

وكان يقول أيضًا: «عليك بالبيِّن المحض، وإياك وبُنَيَّات الطريق، وعليك بما تعرف واترك ما لا تعرف».

وقد يندفع مبتدئ إلى البحث في هذا اللون من فضول العلم أو فروعه؛ لكثرة تناوله والحديث عنه والسؤال حوله، فهو سبيل إلى التصدُّر، قبل أن يبحث الطالب في القواعد الشرعية، وقبل أن يُلِمَّ بالأصول الكلية المرعية، وقبل أن يستوفي نصيبه من الاستعداد والملكة المعرفية.

فهذا شاب يجتهد في مسألة أصولية، استقرَّ رأي الأمة فيها منذ زمن بعيد على قول واضح صحيح، ثم يستحدث رأيًا جديدًا، يظن أنه غاب عن عقول الجهابذة والعظماء وفُتح عليه فيه، على رغم حداثة سِنِّه وقلة خبرته، وإنما أُتي من هذا.

وآخر جعل نفسه حَكَمًا بين أهل العلم فيما شجر بينهم، فأضاع عمره وجهده في غير طائل، وذهب الناسُ بالعلم النافع المقرِّب إلى الله تعالى، أما هو فما في جرابه إِلَّا: قال فلان، وقال فلان.. ثم خرج كما قال القائل:

ولم نَستفدْ من بَحثِنَا طولَ عُمرِنا *** سوى أنْ جَمعْنا فيه: قِيلَ وقالوا

وثالث اضطرته مضايق الجدل والمناظرة، التي كان الإمام مالك رحمه الله ينهى عنها ويقول: «ليس الجدال في الدين بشيء». وقال: «المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم من قلب العبد». وقال: «إنه يقسِّي القلب ويُورث الضغن». وقال الزُّهْري: «رأيتُ مالكًا وقومٌ يتجادلون عنده، فقام ونفض رداءه وقال: إنما أنتم حرب»، ويحمله التعصُّب على أن يغيِّر مواقع العلم، ويقدِّم ويؤخِّر، ويرفع ويخفض، فتصبح الأصول عنده فروعًا؛ لأنه أهملها وغفل عنها واشتغل بغيرها، فإذا حُدِّث عنها لم يتحرَّك قلبه، ولم ينشط ذهنه، وكيف وهي مسلَّمات وبَدهيَّات، وكأن كونها كذلك يعني العزوف عنها! وتصبح الفروع عنده أصولًا؛ لأنه اعتنى بها، وحرص عليها، وتحفَّظها، وقدَّمها، واعتبرها أساسًا للمخالفة والموافقة، فيحاول أن يُعطيها لونًا آخر غير اللون الذي هو في شريعة الله، فيجعلها مرتبطة بأصل، أو مرتبطة بـ «منهج» حتى يثبت أنه لا بد فيها من المخالفة والرد.

ورابع يرى حاجة الناس إلى علم الشريعة، فيستعجل الخطوات، ويختصر المسافات، ويقرأ كتاب «المحلَّى» لابن حزم، فيجد من روعة الأسلوب، وقوة الحجة، وبراعة الإحراج للخصوم، ما يجعله أسيرًا لعقلية الإمام، فلا يخرج عن رأيه، ويُفتي بمذهبه، ويركض وراءه، فإن رَقَى جبلًا رَقَى وراءه، أو هبط سهلًا أو واديًا، أو تجشَّم صعبًا فعل مثله، لا يَلْوِي على شيء؛ لأنه لا يملك من العلم والتأصيل وقوة النظر ما يجعله يميِّز بين الاجتهاد الذي أصاب وبين الاجتهاد الذي لم يصب.

ولو أن هذا الإنسان أو ذاك أعطى نفسه بعض الوقت، وصبر وصابر حتى ينضج على نار هادئة، ولم يستجب لنوازع الشهوة الخفية في النفس؛ لنفع وانتفع وكان شيئًا مذكورًا.

 

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 103

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://www.alsallabi.com/uploads/books/16527989340.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022