الإمام مالك يعطي دروسا في عِزَّة العالِم
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الواحدة والخمسون
ذو الحجة 1443ه/ يوليو 2022م
قدم المَهْدِي- وهو خليفة المسلمين- المدينةَ، فبعث إلى مالك بألفي دينار أو بثلاثة آلاف دينار، ثم أتاه الرَّبِيع، فقال: إن أميرَ المؤمنين يحب أن تعادله إلى مدينة السلام. فقال له: «قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «المدينةُ خيرٌ لهم، لو كانوا يعلمونَ». والمال عندي على حاله».
وهذا موقف عظيم، ويشبه ذلك قوله: «والله ما دخلتُ على مَلِك من هؤلاء الملوك حتى أصل إليه، إِلَّا نزع الله هيبته من صدري».
وجاء الخليفة هارونُ الرَّشِيد بصحبة أولاده إلى الإمام مالك، فقال: «اقرأ عليَّ شيئًا من العلم. فقال له الإمام مالك: والله ما قرأتُ على أحد منذ زمان، وإنما يُقرأ عليَّ. فقال هارونُ الرَّشِيد لمالك: أَخْرِج الناس من مجلسك حتى أقرأ عليك. فأَبَى الإمام مالك، وقال: إذا مُنع العام لبعض الخاص، لم ينتفع الخاص. ثم أمر الإمام مالك- دفعًا للإشكال- مَعْنَ بنَ عيسى فقرأ عليه».
وذكر مالك أنه دخل على أبي جعفر المنصور، وكان الناس يدخلون عليه، فمنهم مَن يقبِّل رأسه، ومنهم مَن يقبِّل يده، ومنهم مَن يقبِّل رجله، قال: «فعصمني الله تعالى من ذلك كله».
ولله در القاضي الجُرجاني إذ يقول:
يقولونَ لي: فيكَ انقباضٌ وإنما *** رأَوْا رَجُلًا عن موقفِ الذُّلِّ أَحْجَما
أرَى الناسَ مَن دانَهم هانَ عندَهم *** ومَن أكرَمَتْه عزَّةُ النَّفسِ أُكرِما
ولم أقضِ حقَّ العِلْمِ إنْ كان كُلَّما *** بدا طَمَعٌ صيَّرتُه لي سُلَّما
أَأَشْقَى بهِ غَرْسًا وأَجْنِيهِ ذِلَّةً *** إذًا فاتِّباعُ الجهلِ قد كان أَحْزَمَا
ولو أنَّ أهلَ العِلْمِ صانُوهُ صانَهم *** ولو عظَّموهُ في النُّفوسِ لَعُظّمَا
ولكنْ أهانُوه فهَانَ ودَنّسُوا *** مُحيَّاهُ بالأطماعِ حتَّى تَجَهَّمَا
وهكذا صنع مالك مع المَهْدي حين قدم المدينة، وبعث إلى الإمام مالك ليقرأ على أولاده: هارون وموسى، فبعث إليه، فلم يجبهما، فأعلما المَهْدي، فكلَّمه، فقال: يا أميرَ المؤمنين، العلم يُؤتى أهلُه. فقال الخليفة- وكان رجلًا عاقلًا-: صدق مالك، صيرا إليه. فلما صارا إليه، قال له مؤدِّبهما: اقرأ علينا. فقال: إن أهل المدينة يقرؤون على العالم، كما يقرأ الصبيان على المعلِّم، فإذا أخطؤوا، أفتاهم. فرجعوا إلى المَهْدي، فبعث إلى مالك، فكلَّمه، فقال: سمعتُ ابنَ شِهَاب يقول: جمعنا هذا العلمَ في الروضة من رجال، وهم يا أميرَ المؤمنين: سعيد بن المسيِّب، وأبو سلمة، وعروة، والقاسم، وسالم، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، ونافع، وعبد الرحمن بن هُرْمُز، ومن بعدهم: أبو الزِّناد، ورَبِيعة، ويحيى بن سعيد، وابن شِهَاب، كل هؤلاء يُقرأ عليهم، ولا يقرؤون. فقال: في هؤلاء قدوة، صيروا إليه، فاقرؤوا عليه. ففعلوا وجلسوا في غِمار الناس، وقرؤوا على الإمام مالك كما يقرأ سائر الطلاب.
وفي ذلك الموقِف أُنموذج للحاكم العاقل الذي عرف حق العالم فأدَّاه على أكمل وجه، ونشَّأ بنيه على تقدير العالم، والأخذ عنه ومجالسته.
والإمام رحمه الله كان مؤدَّبًا، عظيم الأخلاق، رفيع الذوق، طيب الرائحة، نقي الثوب، مَهِيبًا، فيه أخلاق الملوك، على تواضعه وسماحته.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 112-111
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: