السبت

1446-06-27

|

2024-12-28

(محنة الإمام مالك)

اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: الثانية والخمسون

ذو الحجة 1443ه/ يوليو 2022م

تعرَّض الإمام مالك رحمه الله لفتنة عظيمة؛ فقد كان يُفتي في مجلس علمه أنه ليس على المستكرَه طلاق، وينقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «ليس على مستكرَه طلاق».

فجاء بعض المنافسين وقالوا لأبي جعفر المنصور: إن مالكًا يقصد بقوله: ليس على مستكرَه طلاق: أن البيعة لكم لا تنفذ؛ لأنها وقعت بغير رضا.

فأُحضر مالك، وجُلِد أربعين جلدة، وضربوه حتى أصابه هذا الضرب في يده؛ فكان يحمل إحدى يديه بالأخرى.

ومهما اختلفت الروايات في طبيعة الوِشاية التي أُوذي مالك بسببها، فإن الراجح أن السبب هو أنه كان يحدِّث بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس على مستكرَه طلاق».

واختلف المؤرِّخون في سياق قصة محنة مالك بن أنس، إِلَّا أن أبا العرب التميمي قد يكون أكثرهم تفصيلًا؛ فقد ساقها في كتابه «المحن» بسنده، فقال:

«حدَّثني يحيى بن عبد العزيز، عن يوسف بن يحيى الأزدي، عن عبد الملك بن حَبِيب.

وحدَّثني أيضًا سعيد بن شعبان قال: حدَّثنا عُبيد الله بن عبد الملك، عن أبيه- وبعضهم يزيد على بعض- عن مُطَرِّف بن عبد الله، وغيره من أصحاب مالك، أن هَيْجاء هاجت بالمدينة في زمان أبي جعفر، فبعث إليها أبو جعفر ابنَ عمه جعفرَ بنَ سليمان العباسي ليُسَكِّن هيجاءها، ويجدِّد بيعة أهلها، فقدمها وهو يتوقَّد على أهل الخلاف لأبي جعفر، فأظهر الغِلظة والشِّدة وَسَطَا على كل مَن أَلْحَدَ في سلطانهم، وأخذ الناس بالبيعة، ومالك بن أنس يومئذ سيد أهل زمانه، ولم يزل صغيرًا أو كبيرًا محسودًا، وكذلك مَن عظمت نعمة الله عليه في علمه أو عقله أو نبله أو ورعه، فكيف بمَن جمع الله تبارك وتعالى ذلك له فيه، ولم يزل مالك منذ نشأ يَسْلُبُ النباهة والرئاسة مَنْ كان قد سبقه إليها؛ بظهور نعمة الله عليه وسُموِّها به على كل سامٍ قبله من أهل بلده، فاشتد لذلك الحسد له وألجأهم ذلك في البغي، فدسُّوا إلى جعفر مَن قال له: إن مالكًا يُفتي الناسَ أن أيمان البيعة لا تلزمهم؛ لمخالفتك واستكراهك إياهم عليها. فدسَّ عليه جعفر بعض مَن لم يكن مالك يخشى أن يُؤتى من قِبَلِه، ومِن مأمنه يُؤتَى الحَذِرُ، فسأله عن ذلك سِرًّا، فأفتاه بذلك طمأنينة إليه وحسبة منه، فلم ينشب مالك أن جاء إليه رسولُ جعفر بن سليمان، فأُتي به منتهَك الحرمة، مزال الهيبة، فأَمر به جعفر بن سليمان، فضربه سبعين سوطًا، فلما سكن الهيج وتمت البيعة بلغ أبا جعفر ضرب مالك، فكره ذلك ولم يَرْضه، فبعث إلى مالك يستقدمه على نفسه بالعراق، فأَبَى من ذلك، وكتب إليه يستعفيه ويعتذر ببعض العذر..».

وقال أيضًا: «وحدَّثني يحيى بن عبد العزيز قال: حدَّثني بَقِيُّ بن مَخْلَدٍ، عن أبي بكر عبد الله بن جعفر قال: لما ضُرب مالك بن أنس، ضربه والٍ كان بالمدينة لجعفر بن سليمان الهاشمي، فعتب جعفرُ بنُ سليمان على واليه الذي ضرب مالكًا في بعض أموره، فضربه وحلق رأسه ولحيته، فقيل لمالك بن أنس: إن جعفرَ بنَ سليمان قد ضرب فلانًا وحلق رأسه ولحيته، وأقامه للناس. فقال مالك: وما تريدون به، أترون حظنا مما نزل به النظر إليه والشماتة به؟! إنا نؤمِّل من ثواب الله ما هو أعظم من ذلك، ونؤمِّل له من عذاب الله ما هو أشد من ذلك».

وقال الفسويُّ في «المعرفة والتاريخ»: «وسمعتُ مكيَّ بن إبراهيم قال: ضُرب مالك بن أنس في سنة سبع وأربعين ومئة، ضربه سليمانُ بنُ جعفر بن سليمان بن علي، قال: ضربه سبعينَ سَوْطًا».

قال الشيخ محمد أبو زهرة: «.. ويظهر أن أهلَ المدينة عندما رأوا فقيهها وإمامها ينزل به ذلك النَّكال، سخطوا على بني العباس وولاتهم، وخصوصًا أنه كان مظلومًا؛ فما حرَّض على فتنة، وما بغى، ولا تجاوز حد الإفتاء، ولم يفارق خطته قبل الأذى ولا بعده، فلزم درسه بعد أن أَبَلَّ من جراحه وَرَقأت، واستمر في درسه، لا يحرِّض ولا يدعو إلى فساد، فكان ذلك مما زادهم نقمة على الحاكمين، وجعل الحكَّام يحسُّون بمرارة ما فعلوا، وخصوصًا أبا جعفر الداهية، والفرصة لديهم سانحة، فإنه لم يكن في ظاهر الأمر ضاربًا ولا آمرًا بضرب ولا راضيًا عنه؛ لذلك عندما جاء إلى الحجاز أرسل إلى مالك يعتذر إليه.

ولنسق الخبر، كما جاء على لسان مالك رحمه الله؛ لنعرف منه مقدار إجلال أبي جعفر له، وعظم مالك في سماحته، كما كان عظيمًا في مهابته رحمه الله، وها هو ذا الخبر: لما دخلتُ على أبي جعفر، وقد عهد إليَّ أن آتيه في الموسم، قال لي: والله الذي لا إله إِلَّا هو، ما أمرتُ بالذي كان، ولا علمتُه، إنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنتَ بين أظهرهم، وإني أَخَالُك أمانًا لهم من عذاب، ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة؛ فإنهم أسرع الناس إلى الفتن، ولقد أمرتُ بعدُ والله أن يُؤتى به من العراق على قَتَبٍ، وأمرتُ بضيق محبسه والاستبلاغ في امتهانه، ولابد أن أُنزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه.

فقلتُ: عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه، قد عفوتُ عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابته منك. قال: فعفا الله عنك ووصلك».

وفي «الثقات» لابن حبَّان، أن مالكًا لما ضُرب مسح ظهره عن الدم ودخل المسجد وصلَّى وقال: «لما ضُرب سعيد بن المسيِّب فعل مثل ذلك».

قال الواقديُّ: «فوالله ما زال مالك بعدُ في رفعة وعلوٍّ».

قال الذهبيُّ: «هذا ثمرة المحنة المحمودة، أنها ترفع العبد عند المؤمنين» .

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 114-112

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://www.alsallabi.com/uploads/books/16527989340.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022