إضاءات في سيرة الفيلسوف الرباني: الإمام الشافعي
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: السادسة والخمسون
ذو الحجة 1443ه/ يوليو 2022م
هذه التسمية ليست من بَنَات أفكاري، بل من ثناء الإمام أحمد على الإمام محمد بن إدريس الشافعي، فقد قال رحمه الله: «الشافعيُّ فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه» .
ومن الظاهر أن الإمام لم يكن يقصد مجرد علم الشافعي بهذه المسائل، بل ما وراء ذلك من الغوص على الأسرار وعمق اللغة والإحاطة بالفقه، ولا غرابة أن يكون الشافعي رحمه الله بذلك فيلسوفًا.
ولعل هذا يخفِّف من النظرة المتشدِّدة للفلسفة كعلم، فليست هي رَدِيفًا للإلحاد أو الشك المطلق كما يُتوهَّم، بل هي التأمُّل الذي يتجاوز السطح إلى الأعماق، والتساؤل الذي يمد البصيرة بالنور والإشراق.
أما كونه ربانيًّا، فقد كان يقسِّم الليل أثلاثًا: ثلثٌ لطلب العلم، وثلثٌ للصلاة والتهجد، وثلثٌ للنوم.
وأكثر من هذا، فإن الإمام أحمد قد رشَّح الشافعيَّ لمنصب المجدِّدية الذي وعد به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث المشهور: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة مَن يجدِّد لها دينها».
قال الإمام أحمد: «فكان في المئة الأولى: عمر بن عبد العزيز، وفي المئة الثانية الشافعي».
أحمد هنا يعجب بجلاء بعقل الشافعي الذي فك المُشْكِل والمُعْضَل بين ظواهر النصوص، وأجاب عن الأسئلة الجديدة التي لم تُطرح من قبل، وخفَّف من حدَّة الاستقطاب والخلاف بين المدارس، ووضع قواعد الاستنباط والتعامل مع النص بطريقة علمية، كما في كتاب «الرسالة».
الشافعيُّ أول مَن كتب في سيرته الذاتية، بعيدًا عن الافتخار والادِّعاء الكاذب، وأحق الناس بالقدر مَن عرف قدر نفسه، فوجدتُ له كلمات جميلة عن طفولته:
يقول الشافعيُّ: «وُلدتُ بعَسْقَلان- بلدة بفَلَسْطِين في قطاع غَزَّة- فلما أتى عليَّ سنتان حملتني أمي إلى مكة» . قال الشاعر محمد عبد الغني حسن يخاطب غَزَّة:
إذا كنتِ قِدْمًا للتجارة معرضًا *** فأنتِ بدُنْيا العِلْمِ مصدرُ عرفانِ
نَمَيْتِ الإمامَ الشافعيَّ ولم تزلْ *** له فيكِ ذكرى وارفِ العيشِ فينانِ
وأهديتِ للإسلامِ عالِمَ أُمَّةٍ *** وحُجَّةَ تشريعٍ وصاحبَ تبيانِ
وما زال في ترحاله متشوقًا *** إليكِ ومطويَّ الضلوعِ بتحنانِ
يقول وفي أشعارِه الصدقُ والهدى *** ولفحةُ مشتاقٍ ونفحةُ إنسانِ
وإنِّي لمشتاقٌ إلى أرضِ غَزَّةٍ *** وإنْ خانني بعدَ التفرُّقِ كتماني
سقَى الله أرضًا لو ظفرتُ بتُرْبها *** كحلتُ بهِ من شدةِ الشوقِ أجفاني
وقد وُلد الشافعي في العام الذي مات فيه أبو حنيفة، بل قال بعضهم: في اليوم الذي مات فيه أبو حنيفة. وقد ورد هذا بسند جيد إلى الرَّبيع بن سليمان المُرادي.
لكن قد يُحمل اليوم على مطلق اليوم، لا على اليوم المحدَّد، أي: أنه وُلد في يوم الاثنين مثلًا، لكن لا يلزم أن يكون في التاريخ ذاته الذي مات فيه أبو حنيفة رحمهما الله.
وقال: «كنتُ ألزم الرَّمْي، حتى كان الطبيبُ يقول لي: أخاف أن يصيبك السُّل من كثرة وقوفك في الحر. قال: وكنتُ أصيبُ من العشرة تسعة» .
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 123-121
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: