الإمام مالك وفضول العلم
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الخمسون
ذو الحجة 1443ه/ يوليو 2022م
ظل مالك رحمه الله يأخذ العلم ممن جاء به، ولا يرى في العلم صغيرًا، حتى إنه أخذ من بعض طلابه مسائل ورجع عن مذهبه فيها- كما في ترجمة عبد الله بن وهب- فقد رجع إلى قوله في مسألة تخليل الأصابع في الوضوء؛ فعن ابن أخي ابن وهب قال: سمعتُ عمي يقول: «سمعتُ مالكًا سُئل عن تخليل أصابع الرِّجلين في الوضوء، فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركتُه حتى خفَّ الناسُ، فقلتُ له: عندنا في ذلك سُنَّة. فقال: وما هي؟ قلتُ: حدَّثنا اللَّيْثُ بنُ سعد وابنُ لَهِيعة وعَمرو بن الحارث، عن يزيد بن عَمرو المَعَافري، عن أبي عبد الرحمن الحُبُليِّ، عن المُسْتَورد بن شدَّاد القرشي قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَدْلُك بخِنْصره ما بين أصابع رجليه.
فقال: إن هذا الحديث حسن، وما سمعتُ به قطُّ إِلَّا الساعة. ثم سمعتُه بعد ذلك يُسأل فيأمر بتخليل الأصابع».
الانصياع للحق والأخذ به دون استنكاف هو ديدن مالك وأضرابه من الفحول الذين يضيفون علم الآخرين إلى علمهم، ولا يستنكرون ما يجهلون لمجرد أنهم لم يعرفوه قبل غيرهم.
ومع تأهُّله المبكِّر للفُتيا والتدريس، واستمراره في طلب العلم، كان يقظًا، حَذِرًا، عاقلًا، لا يتكلَّم فيما لا طائل تحته، ولا يَهْجُم على كل شيء.
جاء شيخ جليل، فجلس في مجلس مالك، فسأله عن مسألة، فلم تعجب مالكًا، فأعرض عنه، ثم أعادها عليه، فأعرض عنه، ثم أعادها عليه، فقال له الإمام مالك: «يا هذا، إذا رأيتني جلستُ لأهل الباطل فتعال أجبك معهم» .
كانت مسألة عَقِيمة، لا ثمرة من ورائها، وكان تكرار السؤال عنها ضربًا من قلة الأدب، فأراد مالك أن يحفظ مقام العلم وهيبته أن يبتذله الجاهلون.
إن كثيرًا من المسائل إذا تأمَّلتها وجدتها لا تُغني في دنيا ولا في دين؛ ولهذا جلس رجل في مجلس مالك فقال: يا أبا عبد الله، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5]، كيف استوى؟ فأطرق مالك رأسه، ثم علاه الرُّحَضاء، ثم قال: «الاستواءُ غير مجهول، والكيفُ غير معقول، والإيمانُ به واجب، والسؤالُ عنه بدعة، وما أراك إِلَّا مبتدعًا». فأَمَرَ به أن يُخرج.
ولعل مالكًا رحمه الله عرف من شأن الرجل وطريقته وملابسات سؤاله ما جعله يفعل ذلك، وأدرك أنه لم يكن جاهلًا يسأل فَيُعلَّم، وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، ويحكي كراهته عمَّن تقدَّم.
إن العلم الصحيح ما قرَّبك إلى الله، وصحَّح قلبك ونيتك، ونوَّر بصيرتك، وجعلك أكثر خشوعًا وزهدًا وتقوى وطاعة.
أو ما كان علمًا دنيويًّا ينفعك في زراعة أو حرث، أو تجارة، أو إدارة، أو صناعة، أو كسب أو معيشة، فهذا من العلم الذي يُحتاج إليه، ولا غنى للإنسان عنه.
والإمام مالك رحمه الله يقدِّم النصيحة نفسها في كلمة أخرى مضيئة، فيقول: «انظر ما ينفعك في ليلك أو نهارك فاشتغل به».
ووصف الواقدي مجلس الإمام مالك، فقال: «كان مجلسه مجلس وقار وحِلم، وكان مالك رجلًا مَهِيبًا نبيلًا، ليس في مجلسه شيء من المِراء واللَّغَط ولا رَفْعِ صوتٍ، وكان الغرباء يسألونه عن الحديث، ولا يجيبُ إِلَّا في الحديث بعد الحديث».
إن مجلسه ليس مجلس جدل وخصومات، وليس مجلس سَفْسَطة وقيل وقال، إنما هو مجلس تحُفُّهُ الملائكة، وتَغْشَاه السَّكِينة، وتتنزَّل عليه الرحمة، مجلس الهدوء والإيمان والتقوى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا).
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 108-107
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: