(الإمام مالك وضوابط الإفتاء)
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الثامنة و الأربعون
ذو الحجة 1443ه/ يوليو 2022م
جاء عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: «ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أَنِّي أَهْلٌ لذلك». قال: «سألتُ رَبِيعةَ، وسألتُ يحيىَ بنَ سعيد، فأمراني بذلك». فقال له قائلٌ: يا أبا عبد الله، فلو نهوك؟ قال: «كنتُ أنتهي؛ لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلًا لشيء حتى يسأل مَن هو أعلم منه».
وكانت هذه عادة متَّبعة عند السلف؛ فلم يجلس الشافعيُّ حتى قال له شيخه مُسلم بن خالد الزَّنْجِي- وهو ابن خمس عشرة سنة، ويقال: ابن ثمان عشرة-: «قد والله آن لك أن تُفتي».
ولا زال العلماء يتناقلون ما يُعرف بالإجازة؛ فكان العالم يُعطي تلميذه الشهادة على أنه تلقَّى منه كتاب كذا وكتاب كذا، فيُجيزه في رواية هذه الكتب وتعليمها للناس.
والملحوظ في سيرة الأئمة أنهم يراعون ثلاثة أوصاف فيمَن يرشِّحونه لهذا المقام:
الأول: السِّن: فكانوا يتريَّثون حتى يبلغ السن التي يتم بها عقله، ويكتمل بها نضجه، وإن كان هذا يتفاوت عندهم بين شخص وآخر، فمنهم مَن يحدِّده بسبع عشرة سنة، وآخر بالعشرين؛ بل منهم مَن يوصل الأمر إلى الخمسين .
الثاني: العلم: فلابد أن يكون مع سِنِّه، قد حصل على علم ومعرفة بالكتاب والسنة، وقواعد الاستنباط، ومواطن الاجتماع والاختلاف؛ لئلا يخالف إجماعًا قائمًا، أو نصًّا شرعيًّا، أو يقول ما ليس له به علم.
الثالث: الاعتدال في نظراته وآرائه واجتهاداته، وأَلَّا يُعاب هذا الشخص أو يُذم أو يُنتقص بخلل في فهمه، أو ضعف في عقله، أو انحراف في تفكيره، أو غفلة.
وقد رُوي أن إسماعيل بن أبي أُويس قال: «سمعتُ خالي مالك بن أنس يقول: إنَّ هذا العلم دينٌ، فانظروا عمَّن تأخذون دينكم؛ لقد أدركتُ سبعينَ عند هذه الأَساطين- وأشار إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم- يقولون: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فما أخذتُ عنهم شيئًا، وإن أحدَهم لو ائتُمِن على بيت مال لكان به أمينًا؛ لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، ويقدُم علينا ابنُ شِهاب الزُّهْري وهو شاب، فنزدحم على بابه».
وهذا يؤكِّد الحاجة إلى ضبط المسيرة العلمية؛ فإن القائل في الشرعيات مترجِم عن الله، حسب تعبير القَرافي، أو موقِّع عن الله، حسب تعبير ابن القيم في كتابه: «إعلام الموقعين عن رب العالمين».
الشهرة لا تكفي، والسِّن وحده لا يكفي، وقراءة الكتب وحدها لا تكفي؛ بل لابد أن تتوافر مجموع صفات في الإنسان تجعله أهلًا لمثل هذا المقام الرفيع العظيم، الذي أسنده الله تعالى إلى رسله، فجعل لهم أمر الفُتيا، ولذلك كان العلماء الصالحون هم ورثة الأنبياء.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 102
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: