الخميس

1446-06-25

|

2024-12-26

(اللِّباس رمز للفطرة الإنسانية...)

اقتباسات من كتاب "علمني أبي..مع آدم من الطين إلى الطين" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: التاسعة عشر

ربيع الأول 1444ه/ أكتوبر 2022م

تداولت المواقع صورة لثوب طويل؛ تخيَّل راسمه أنه يشبه ثوب آدم!

يا بني الكريم!

كان لباس والديك أول الأمر البراءة والغفلة عن معنى العورة، كما يحدث لوليدٍ يشم روح الحياة لأول وهلة؛ ولذا قال وهب بن منبه وغيره: «كان لباسهما النور»، وقال مجاهد: «نزع عنهما لباس التقوى».

وكأن لحظة الأكل من الشجرة فتقت معنى كامنًا من الغريزة في نظر بعضهم إلى بعض، وهو جزء من القدر الربَّاني في التوالد وامتداد الذرية.

ومال الإمام الطبري إلى التفسير باللِّباس المطلق بغير إضافة إلى شيء متعارف عليه بين الناس، وعليه: فيجوز أن يكون ظفرًا أو شعرًا أو نورًا أو غير ذلك..

وأول لباس مستقل ظاهر لبسوه كان من ورق الجنة، وتمت صناعته بطريقة الخَصْف، مثل الخرز، ويشبه الخياطة، ويعني ضم أطراف الشيء بعضها إلى بعض ثم شبكها بعود أو نحوه..

لم يأخذوا من ورق الشجرة ذاتها، بل من ورق الجنة، قيل: لأنهما أمعنا في الهرب حياء من الله بعدما لحظوا انكشاف سوءاتهم، والله أحق أن يُستحيا منه، ولكن إلى أين المفر؟!

وبهذا أصبح اللِّباس سترًا يواري عورة الإنسان ويُعبِّر عن احتشامه، حتى من نفسه وزوجه إذا لم يكن ثَمَّ حاجة تدعو إلى ذلك، وكان آدم وحواء يستتران من بعضهما بهذا الورق المخصوف!

كشف العورة بين الزوجين من غير داعٍ مستهجن، واللِّباس يحقِّق الحشمة والسِّتر، ويحقِّق الجمال والزينة والجاذبية في الوقت ذاته!

وبهذا أصبح اللِّباس من أول مظاهر الإنسانية المترقِّية المتحضِّرة، وكانوا يسمون يوم العيد: ﴿يَوْمُ الزِّينَةِ﴾.

وصار إنسان الغابة يُعرف بالعري وعدم المبالاة بانكشاف سوءته، حتى جاءت الحضارة الحديثة فأدخلت عنصر (التزيين)، وجعلت فتنة التعرِّي الجسدي عبر الاستعراض والرياضة والرقص والموضة وفنون الجسد.. فلسفةً تحتال فيها على اللباس العلوي الكريم؛ الذي ألهم الله آدم وحواء.

والشيطان يريد من الذرية ما أراد من الأبوين أن تنكشف عوراتهم وتنفرط شهواتهم، ويتشبَّهوا بالبهائم العجماوات؛ التي تجري وراء غريزتها دون إدراك.

وبهذا أصبح اللِّباس رمزًا للفطرة الإنسانية منذ نشأتها الأولى، فهو كان مع آدم وحواء أول ما تفتَّقت فيهما روح الاجتماع والوصال واشتياق بعضهم لبعض، وتمَّ التوازن بين الطين الأرضي والروح العلوي.

وبهذا أصبح اللِّباس جمالًا وزينة، ويكفي أنه من شجر الجنة.

في الأرض كانت ثيابهم من شعر الضأن، جَزُّوه، ثم غزلوه، فنسج آدم جُبَّة، ونسجت حواء درعًا وخمارًا، كانت تلك بداية الصناعة، ومباشرة العمل باليد، لتدبير أمر اللِّبس، فهو من ضرورات الحياة والصحبة والتعبد.

وقد يجوز أن يكون ما نسجوا ولبسوا غير هذا، ولكنه من جنسه!

وتوارث الأنبياء حب اللِّباس الجميل- حتى لبس خاتمهم صلى الله عليه وسلم- الجُبَّة والحُلَّة والإزار والرِّداء والقميص، وكان أصحابه يحبون أن تكون ثيابهم حسنة ونعالهم حسنة، وخافوا أن يكون هذا من الكِبْر، فقال لهم: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْـجَمَالَ»!

وكان يلبس أحسن ما يجد من الثياب، حتى إن عمر رضي الله عنه رأى حُلَّةً من الحرير فائقة الجمال تُباع في السوق، فأخذها فأَتَى بها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليشتريها؛ لما يعلم من حبه للتجمل، ورغبةً أن يلبسها للعيد والجمعة والوفود، فبيَّن له النبيُّ صلى الله عليه وسلم حرمة الحرير!

وبهذا أصبح للباس وظيفة معنوية تشعر الإنسان بهويته البشرية، وميزته الإنسانية، وتذكِّره بالعهد والميثاق الإلهي: ﴿يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾.

فثمَّ لباس ظاهر من الثياب الخاصة الشخصية أو العامة؛ التي هي الريش.

ولباس باطن من الحب والمودة والرحمة كما سَمَّى الله الزوجين: لباسًا، ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لهن﴾، ولباس الطيبة والخير والصلاح والتقوى والحياء؛ كما قيل:

إِذَا المَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَابًا مِنَ التُّقَى *** تَقَلَّبَ عُرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيَا

وَخَيْرُ خِصَالِ المَرْءِ طَاعَةُ رَبِّهِ *** وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ للهِ عَاصِيَا

وإنزال اللِّباس قد يعني إنزال المادة التي يُصنع منها، أو المطر الذي ينبته، أو إنزال الامتنان به وإباحته وتشريعه للبشر.

ولذا كان الأصل في اللِّباس الحِل والجواز، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس لباس أهل زمانه، ولبس جبةً روميةً، وجلس على قطيفةٍ فَدَكِيَّةٍ، وفَدَك كان فيها يهود، ولم يكن للمسلمين لباس يميِّزهم عن غيرهم، ولا كانوا يلبسون اللباس الخاص بطائفة ما والمعبِّر عن هويتها وثقافتها وخصوص مذهبها.

ولا كان للنبي لباس يميِّزه عن غيره، حتى كان الغريب يأتي المجلس فلا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم من غيره حتى يسأل: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟!

والتميز عن عامة الناس ليس مطلبًا شرعيًّا، وكان العلماء يكرهون ثياب الشهرة المبالغة في الغلاء والثَّمانة، أو المبالغة في الرخص والزَّهادة.

والعرف معتبر في هذا بحسب البيئة والمجتمع وما تواضع عليه الناس، والعرف اليوم سريع التغيُّر؛ بسبب التواصل الإنساني، والشبكات الاجتماعية، والقنوات، ومرحلة القرية الواحدة!

والأجيال تتجدَّد وتتغيَّر أمزجتها؛ خاصة في مجتمعات الوفرة والغنى ومراكز الاستقطاب العالمي؛ كدول الخليج، وما كان من اللباس مرفوضًا بالأمس قد يغدو مقبولًا اجتماعيًّا؛ لتوارد الشباب على استخدامه واستحسانه وهم أغلبية المجتمع.. ما لم يكن من المحرّمات الأصلية.

بعضهم يلبس أفخر الثياب للتجمعات، ويذهب للصلاة بثياب النوم، وهذه غفلة عن وظيفة اللباس: ﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾، ومَن نزلت عليه هذه الآية صلَّى حاسر الرأس، وذلك مقبول شرعًا وعرفًا في كثير من المجتمعات.

ليس من الجيد أن أتميز كطالب علم أو داعية بعباءة في أطرافها (الزري) العريض المذهَّب، وأطل عليهم عبر شاشة لأحدِّثهم عن الزهد في الدنيا!

وقد كتب عنِّي أحدُهم يومًا مقالًا ناقدًا بهذا الخصوص فأزعجني، وقلت: هل انتهت قضايانا ولم يبق سوى بشت الداعية!، ثم تقبَّلت الفكرة بعدُ، واستذكرت أن العاقل يأخذ الحكمة ولا يضره من أين خرجت، ولا يتساءل عن الدوافع والنيات والمقاصد.. النصيحة مقبولة ما دامت وافقت صوابًا بكل حال، وإذا كنتُ أزعم أني داعية فلأدرِّب الآخرين بفعلي على الأريحية والسَّعة وقبول الآخر، وتجاوز التصنيف والمرادّات السطحية!

اللِّباس الجميل فضل ونعمة، والاعتدال فضيلة، و«البَذَاذَةُ مِنَ الإِيمَانِ».

التواضع في اللِّباس ورثاثة الهيئة، وترك الزِّينة، والرِّضا بالدُّون من الثِّياب قد يكون ميلًا مناسبًا لنفسية زاهد متواضع عازف عن الدنيا.

والشرع قد يأتي بخيارات متعدِّدة تناسب اختلاف طبائع الناس وميولهم، فأبو ذر رضي الله عنه يختلف عن تَمِيم الدَّاري رضي الله عنه!

وقد اشترى تَمِيم الدَّاري رضي الله عنه ثوبًا بألف درهم فكان يصلِّي فيه.

اللِّباس الخشن ليس بمستحب، ولا هو لباس التقوى كما ظن قومٌ، ولبس الصوف ليس بمشروع بخصوصه كما يظن بعض الصوفية..

والله يحب أن يُرى أثرُ نعمته على عبده، وهو لا يحب المسرفين، ولا يحب المبالغين في البحث عن النفيس، ولا لابسي الحرير والذهب من الرجال، ولا يحب المتشدِّدين المحرِّمين بغير علم: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.

الحياء والحشمة للمرأة أوجب وألصق وأليق، واليوم نشكو من إسبال الرجال وتشمير النساء.

وكشف المؤمنة البالغة لشعرها لغير ضرورة محرَّم ومعصية، وهو مثل مخالفات يرتكبها الرجال علانية ويخالفون فيها شريعة الله، وليس هذا ولا ذاك من الكفر، وليس مدعاة للوصم بالفجور، ولا الاعتداء والوقوع في أعراض المؤمنين والمؤمنات وإهدار حقوقهم..

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب علمني أبي للشيخ سلمان العودة، صص 107-112

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://alsallabi.com/books/view/777


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022