الخميس

1446-06-25

|

2024-12-26

(الإسلام دين وهوية...)

اقتباسات من كتاب "علمني أبي..مع آدم من الطين إلى الطين" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: 18

ربيع الأول 1444ه/ أكتوبر 2022م

إذا كان من المسلَّم أن المسمَّى له حظٌّ من اسمه، فما السر في تسمية آدم ومن بعده بالإنسان؟

* أهو مشتق من الإيناس بمعنى الإبصار، كما في قوله تعالى: ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾، فهو رآها عن بعد، ومنه: إنسان العين، وهو سوادها، وعليه فالإنسان هو الظاهر المرئي المشاهد، وليس المتخفي كالجن والملائكة؟

* أم مأخوذ من الأُنْس، وهو ضد الوحشة، فالإنسان كائن اجتماعي يأنس ويؤنس به، وبوجوده أنست الأرض والنبات والجماد: «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»، وكأن وجوده باح بسرّ هذه المخلوقات وفتق معناها؟

والمتشائمون يقلبون المعاني الإيجابية إلى ضدِّها، فيقول قائلهم:

الإِنْسُ مُشْتَقٌّ مِنَ الأُنْسِ *** وَالحَزْمُ أَنْ تَنْأَى عَنِ الإِنْسِ!

ثِيَابُهُمْ مُلْسٌ وَلَكِنَّهَا *** عَلَى ذِئَابٍ مِنْهُمُ طُلْسِ

والذئب الأطلس هو المائل إلى السواد، فهو يحذّر من الناس فهم عنده كالذئاب..

وعادةً مَن يطلقون هذه الأحكام السلبية يستثنون أنفسهم، وكأنهم ليسوا من فصيلة الآدميين!

* أم مأخوذ من النسيان: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾، كما اختاره ابن عباس رضي الله عنهما، والمَعَرِّي والكوفيون، ومع أن النسيان استثناء إلا أنه يثبت القاعدة الأصلية في ذاكرة آدم وعقله وحفظه، كما قال الشاعر :

وَمَا سُمِّيَ الإنْسَانُ إِلَّا لِنَسْيِهِ *** وَلَا القَلْبُ إِلا أَنَّهُ يتَقَلَّبُ

وقال أبو الفتح البُستي :

يَا أَكْثَرَ النَّاسِ إِحْسَانًا إِلَى النَّاسِ *** وَأَكْثَرَ النَّاسِ إِغْضَاءً عَنِ النَّاسِي

نَسِيتُ عَهْدَكَ وَالنِّسْيَانُ مُغْتَفَرٌ *** فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ

ثَمَّ ميزة أخرى لآدم في وعيه وذاكرته وعقله الظاهر والباطن..

* أم مشتق من النَّوَس، وهي الحركة، فالإنسان كائن مكتنز بالطاقة مندفع إلى الحركة حتى وهو طفل؟

التكليف بمهام الخلافة متسق مع هذه الصفة الفطرية.

* ولعله لكل ذلك سُمِّي إنسانًا:

1- فالله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وقامته المنتصبة وأطرافه ومفاصله تميِّزه عن سائر المخلوقات، وفي تفسير: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾، قال ابن عباس رضي الله عنهما، وعكرمة وإبراهيم النَّخَعي والضَّحَّاك ومجاهد وغيرهم ما محصله: خُلق منتصب القامة معتدلًا قائمًا على قدميه.

ولعل هذا لا يعارض المعنى الآخر للآية الذي هو الشدة والعناء والنَّصب والتعب ومقاساة الشدائد؛ فطبيعة الخلق الإلهي لهذا المستخلف لا بد أنها متناسبة مع التكليفات والمهام والمصاعب التي يلقاها.

الكَبَد ليس رديفًا للاكتئاب والتشاؤم والإحباط كما يظنه قوم.

2- والدماغ هو أعقد أجزاء الإنسان، وهو المسئول عن معظم العمليات الذهنية كالتفكير واللغة والتعلم والوعي والانتباه والتخطيط واتخاذ القرار وحل المشكلات والإدراك الحسي، وهو يحرِّك القامة والأطراف ويتحكَّم فيها.

حتى العمليات العاطفية والنفسية متصلة به، فضلًا عن التعقل والحفظ والنسيان.

3- ولأن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه فهو قادر على تنظيم العلاقات، بدءًا من الأسرة، وانتهاءً بالأمة، مرورًا بالتشكلات الفكرية والاجتماعية والصداقات.

4- ولذلك فالإنسان كائن حضاري منذ البداية، ويعرف الناس حضارات ما قبل التاريخ وآثارها، كبرج بابل وبوابة عشتار وحدائق بابل المعلَّقة.. وفي عُمان كان المرشد يشرح لنا حول آثار هناك ويعزو بعضها لفترة ما قبل التاريخ.

5- العواطف والمشاعر من مميزات السلوك البشري، الحب والغرام، والحقد والكره، والغضب والرضا، يضحي الإنسان حتى كأنه يفنى عن ذاته، ويخون حتى كأنه بلا ضمير، يحب حتى الثُّمالة، ويكره حتى المَقْت، ينغمس في الحياة إحساسًا بالجمال وتذوقًا لتجلياته، وإبداعًا لفظيًّا وحركيًّا، ويتنكر للحياة فيتحول إلى وحش كاسر يقتل الملايين بلا رحمة في حرب عمياء ليس لها معنى.

6- كلمة (الإنسان) أساس المشتركات الفطرية بين البشر، فهي حتمية الرعاية؛ لأنها الصبغة الأولى قبل أن يطرأ أي إضافة أو تعديل أو لون آخر!

الطعام والشراب والماء والهواء والسكن والأسرة والملبس والأمن والحلم والعدالة والأخلاق والبيئة مطلب لكل إنسان.

القواعد والأعراف المرعية لدى جميع شعوب الأرض في تنظيم الزمن وتقسيمه وخبرات الحياة المتراكمة هي موروث إنساني مشترك.

وللأستاذ راغب السرجاني كتابٌ حافل سماه: (المشترك الإنساني).

- يتكلمون عن الإنسان بمعزل عن الله، ويزعمون أنه اخترع الأديان لإشباع حاجاته، وهم بذلك يلغون الإنسان ذاته: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾.

وفي كتاب «الغصن الذهبي» لجميس فرايزر حديث مطوَّل عن السِّحر والوثنية في حياة الإنسان الأولى استغرق اثني عشر مجلدًا، بناه على الخيال، ولم يكن يتوقع أن علم الإنثروبولوجيا في القرن العشرين سوف ينسف معظم استنتاجاته وفرضياته.

الإيمان بالله هو الحرف الأول في أبجدية الإنسان وهويته، ومن دون الإيمان لن يستطيع أن يعرف ذاته ولا أن يعيش حياته، وكما قال الراحل عبد الوهاب المسيري: «إن عبارة نيتشه التي تتحدث عن موت الرب (تعالى الله) تؤدِّي إلى موت الإنسان، فإن نسيت الله أو قتلت فكرة الإيمان فأنت تقتل الإنسان والطبيعة؛ لأن الإنسان إنسان بمقدار ما يحوي داخله من مقدرات غير طبيعية وغير مادية، ولا بد أن يكون مصدرها غير طبيعي وغير مادي، أي مصدرها الله وحده».

كلمة (الإنسان) تمثِّل وحدة الجوهر الإنساني وأصل المساواة بين البشر، القيمة الإنسانية أسبق وأثمن من الإضافات والإلحاقات المادية الطارئة.

الانتماء للإنسان لا يتنافى مع انتماءات أخرى لملة أو مذهب أو تيار أو وطن أو قبيلة أو عائلة، الانتماء الإنساني يُرَشِّد الانتماءات الداخلية ويضبطها ويفتح لها ميادين التعارف والتفاهم والحوار.

كل فرد في المجموعة الآدمية يملك أن يبتكر تعريفًا للإنسان يتكئ على تجربته الحياتية الخاصة أيًّا كانت، وتجربتي الخاصة ألهمتني أنني أكون أعمق إحساسًا بإنسانيتي كلما كنتُ أقرب إلى الله، وكلما وقفت بين يديه وتنصلت إليه والتمست فضله ورحمته، تلك لحظة أكون فيها أقرب ما أكون انسجامًا مع نفسي، وانتماءً لأسرتي وأصدقائي والناس أجمعين، وإدراكًا لمعنى الحياة وسرها.

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب علمني أبي للشيخ سلمان العودة، صص 93-99

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://alsallabi.com/books/view/777


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022