(قيمة المشاعر الإنسانية...)
اقتباسات من كتاب "علمني أبي..مع آدم من الطين إلى الطين" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الثانية والعشرون
ربيع الأول 1444ه/ أكتوبر 2022م
حين وقع الأبوان في الخطيئة بكيا حتى بلَّ دمعهما الثَّرَى، إنها دموع التائبين، ويُروى أن مَلَكًا قال لهما: هذا أطيب ماء على وجه الأرض!
قالوا: وكيف؟
قال: لا أطيب من دمعة تائب نادم على ذنبه.
هل تذكر أنك ذرفت دموع ندم على مقارفة ذنب أو تفويت طاعة؟ تلك الدموع يثقل بها ميزانك، ويبرأ بها قلبك من جراحه.
لم ترقأ عين آدم حين خرج من الجنة حتى عاد إليها.
في قتل قابيل هابيل بكيا على فقْد هذا وعلى جُرم ذاك.
الإنسان كائن شاعر، يحس بالفرح فيضحك، وبالحزن فيبكي.
هو الكائن الوحيد الضاحك الباكي، المتعة والفرح جزء أصيل في تكوينه، والجد الصارم ينافي الفطرة.
الألم عابر لا يجب أن نبني له تمثالًا، ولا أن نجعله أساس مشاعرنا.
كان أبو ذرٍّ رضي الله عنه يُحدِّث أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال في قصة المعراج: «فَلَمَّــا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِي الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ. وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْـجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى».
قلب آدم كبير؛ اتسع لفرحة الصالحين من أبنائه إلى يوم الدين، وتألَّم للتائهين، وبكى من أجلهم.
أكثر ما يُحزن الأبوين هو حال الأبناء، والخوف على مستقبلهم.
أما حكاية بكاء آدم مئة سنة حتى نبت الدارسين (القرفة) والقرنفل من دموعه، فهي تهويلٌ ليس له أصل، وجعل اللهُ في الأبوين القدرة على التكيُّف مع الأوضاع المختلفة.
ومثلها رواية بعضهم أشعارًا في رثائهما لابنهما القتيل:
تَغَيَّرَتِ البِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا *** فَوَجْهُ الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ
تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي طَعْمٍ وَلَوْنٍ *** وَقلَّ بَشَاشَةُ الوَجْهِ المَلِيحِ
وهي من الأكاذيب، والشِّعر المذكور رَكِيك ومعيب ومنحول.
على أن شعر الرثاء من أصدق المعاني، كما في قصيدة ابن الرُّومي:
بُكَاؤُكُمَا يَشْفِي وَإِنْ كَانَ لَا يُجْدِي *** فَجُودَا فَقَدْ أوْدَى نَظِيرُكُمُا عِنْدِي
وقصيدته في رثاء يحيى العلوي، وفيها قوله:
وَلَيْسَ البُكَا أَنْ تَسْفَحَ العَيْنُ إِنَّمَا *** أَحَرُّ البُكَاءَيْنِ البُكَاءُ المُوَلَّجُ
بكاء القلب أقوى من بكاء العين.
وقصيدة أبي الحسن التهامي:
حُكْمُ المَنِيَّةِ فِي البَرِيَّةِ جَارِي *** مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ قَرَارِ
ومن قصيدة لي في رثاء فقيدي (عبد الرحمن) رحمه الله:
وَدَاعًا حَبِيبِي لَا لِقَاءَ إِلَى الحَشْرِ *** وَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِي عَلَيْكَ لَظَى الْجَمْرِ
رُكِّبَ آدم وحواء على اعتدال المزاج، وهو محمود في الفرح والحزن: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾، ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
التعبير الفطري عن الغرائز حسن: «إِنَّ اللهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا- وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ».
والإيمان بالقَدَر يعدل المزاج: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾.
وفي الحديث: «فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ».
وقِلَّته تقتل الحب.
للحيوانات مشاعر محدودة تجاه نفسها أو ولدها أو مَن يحتك بها، وقد يبكي البعير فتدمع عينه، قال المُثَقَّب العَبْدي:
إِذَا مَا قُمتُ أَرْحَلُها بِلَيلٍ *** تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزينِ
أَكُلَّ الدَّهْرِ حِلٌّ وَارْتِحالٌ *** أَمَا يُبْقِي عَلَيَّ وَمَا يَقِينِي
والفن البشري في جملته تعبير متنوع عن مشاعر الفرح، والألم، والحزن، والندم، والاشتياق، والحنين، والفقد..
الدموع رمز النبل والصدق: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾، ﴿تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾.
إنهم يحاولون أَلَّا يرى الناس دموعهم، فيتولون من غير إعراض ولا صدود.
استحضار الكآبة والألم ليس محمودًا ولا متعبَّدًا به، إنما يُؤجر العبد على الصبر والرضى.
جربت أن أدعم عوامل السعادة والمتعة حتى تتغلَّب على نقيضها، فوجدت السعادة تفترش حياتي حتى في المواقف الصعبة، وصار السرور مزاجًا عامًّا لا يُلغيه ألم عابر.. وصرت أُعبِّر عن حالة السعادة وأتحدَّث عنها حتى تبرمج عقلي الباطن عليها.
الحزن مؤلم في لحظته، ولكنه كثيرًا ما يصبح ذكرى ممتعة تعبِّر عن زوال الهم والبلاء، وتبدِّل الحال، والروح والفرج، وتعطي سببًا للحديث عما كان وما صار.
أعجبني تعبير شعبي عن ألم الفراق لم أقرأه إلا وتجدَّد تفاعلي معه، وكأنني أطالعه للمرة الأولى.
تلكم هي قصيدة عابرة سبيل من الكويت لزوجها قبيل وفاتها إثر مرض عضال:
ترى الذبايحْ واهلْها ما تسلينى *** أنا ادري ان المرضْ لا يمكنْ علاجِه
أدري تبي راحتي لا يا بَعَدْ عينى *** حرامْ ما قصَّرتْ ايديكْ في حاجِهْ
خذها وصيةْ وامانةْ لا تبكّينى *** لو كانْ لكْ خاطرٍ ما ودّي ازعاجِه
ابيكْ بيديكْ تَشْهدني وتَسْقيني *** وأمانتْك لا يِجِى جِسْمي بِثَلاّجه
لفّ الكَفَنْ في يديكْ وضفّْ رِجلينى *** ما غيرك أَحْدٍ كَشَفْ حِسناه واحْراجِه
ابيكْ بالخْير تَذْكرنى وتطْرينى *** يجيرني خالقي من نارْ وهّاجِهْ
همي عيالي وأنا اللي فيّ كافيني *** علمهم الدين توحيده ومنهاجهْ
سامحْ على اللي جَرَى ما بينكْ وبينى *** أيامْ نمشي عَدِلْ وايامْ مِنعاجه!
إنها دموع النهاية التي لا تنسى ضحكات البداية!
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب علمني أبي للشيخ سلمان العودة، صص 125-128
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: