(من مبادىء الإنسانية)
اقتباسات من كتاب "علمني أبي..مع آدم من الطين إلى الطين" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الثالثة والعشرون
ربيع الأول 1444ه/ أكتوبر 2022م
ركب إلى جواري في الطائرة شابٌّ غريبٌ، بدت عليه ملامح الحزن والكآبة والانعزال عن الآخرين، وكأنه يتوجَّس خيفة من كل أحد يجالسه أو يحادثه أو يصافحه.. ويتساءل عن نوع الأذى الذي ينوي إلحاقه به !
افتعلت أكثر من سبب لكسر الحاجز النفسي واللُّغوي ولم أفلح.
لم أحتفظ عنه إذًا بأي ذكرى، ولم أصنع في ذاكرته أثرًا ولو دقَّ، إنها فرصة وذهبت.
هذا الشاب هو بيت مغلق بأقفال، ولكي تلج البيت لأي غرض كان عليك أن تبحث عن المفاتيح.
ربما تريد أن تدخل مع هذا الإنسان أو غيره في مشاركة تجارية، أو في مشروع تقني، أو منجز ثقافي، أو تطمع في دعوته إلى خير، أو حمايته من شر، أو تريد أن تنتفع منه بحكم وجود حالة إيجابية لديه يمكن توظيفها.. وهب أنك تريد أن تقدم له خدمة يحتاجها..
أنت هنا أمام ثري، أو مبدع، أو قارئ، أو منحرف، أو شحاذ، أو ما شئت..
هو إنسان قبل أن يكون أيًّا من ذلك، ويوم وُلد لم يكن له لون ولا شيء معه.
وأي محاولة تواصل تتجاوز مبدأ الإنسانية ستمنى بالفشل.
ومن حسن الحظ أنك أنت إنسان أيضًا فلديك الكثير من المعرفة المفصلة والواقعية عن الإنسان وحاجاته وضروراته ومداخله ومشاعره وأحاسيسه.
الإنسانية ليست مذهبًا نظريًّا، هي الإحساس الذي عاد إليه قابيل حين أحس بالندم، وظل يفكِّر كيف يواري سَوْءة أخيه..
هي المشترك بين الظالم والمظلوم حيث سماهما القرآن: إخوة.
هي الغائب الذي تسبَّب فقده في الجرأة على إزهاق الروح.
ذرية آدم هم: (البشر، الناس، الآدميون، الإنس..)، وكلهم- حتى الأنبياء والرسل والأولياء والصديقون- يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويتزوَّجون وينجبون، ويصحون ويمرضون، وتصيبهم اللأواء.
ولكل إنسان أسوار لا ينبغي تقحمها ولا تجاوزها، ومداخل تناسبه، بَيْدَ أنها تحتاج إلى اللُّطف والبصيرة وحسن التأتِّي.
وحين قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْـجَنَّةِ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ..». كان يرسم منهجًا رائعًا في التعامل مع الآخرين، أن تضع نفسك في موضع الإنسان الذي أمامك وأنت تتعامل معه.
حين كشف هابيل عن موقفه من أخيه وأنه لن يبادله بسط اليد بالعدوان، كان يحرِّك إنسانيته ليكف عن أخ لم يضمر له السوء.
ما الذي يروق أخاك ويعجبه منك؟
أن تثني عليه بخير، ولا أحد إلا ولديه من الخير ما يمكن أن يُثنى به عليه، وبصدق، دون خداع أو تزيُّد.
أن تعرب له عن محبتك وتقديرك لشخصه الكريم.. وكيف لا تقدِّر إنسانًا كرَّمه ربه واصطفاه وأحسن خلقه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾، ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾.
انظر في عينيه، وابتسم له بصفاء، وصافحه بحرارة، وتحدَّث إليه وأنت منبسط هاش باش، واختر الكلمات الجميلة السحرية
أُضَاحِكُ ضَيْفِي قَبلَ إِنْزَالِ رَحْلِهِ *** وَيُخْصِبُ عِنْدِي وَالمَحَلُّ جَدِيبُ
وَمَا الخَصْبُ لِلْأَضْيَافِ أَنْ يَكْثُرَ القِرَى *** وَلَكِنَّمَا وَجْهُ الكَرِيمِ خَصِيبُ
قبل أن تعطيه المال، أو توفر له الاحتياج، أو تجود عليه بما يطلب، أعطه وجهك وقلبك واحترامك وتقديرك، ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾.
اصنع هذا لزوجك التي تدوم معها عشرتك طوال الحياة، واصنعه لولدك الذي خرج منك فأصبح كيانًا مستقلًّا له شخصيته وتكوينه وحسابه ومسئوليته الكاملة في الدنيا والآخرة.
واصنعه مع زميلك في العمل أو شريكك أو جارك الذي تلقاه كل يوم أو كل صلاة.
واصنعه مع الخادم أو السائق، دون ازدراء لإنسانيته أو تحقير لشخصيته، واعتقد في داخلك أنه إن كان الله فضَّلك عليه في الدنيا بمال أو منصب، فربما يكون فضَّله عليك في الآخرة بتقوى أو إيمان أو سريرة من إخلاص أو عمل صالح.
واصنعه مع الغريب الذي تراه لأول مرة، وربما لا تراه بعدها لتوفِّر لديه انطباعًا إيجابيًّا عنك، وعن الفئة أو الجماعة التي تنتمي إليها، ولتمنحه قدرًا من الرضا والسرور والفرح والاغتباط، وتبعث إليه برسائل من السعادة سوف يكافئك الله العظيم بما هو خير منها عاجلًا، فالمعطي ينتفع أكثر من الآخذ ؛ وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلًا.
واصنع ذلك بصفة أساسية لأولئك الناس الذين تريد أن توجِّههم أو تنتقدهم أو تقدِّم لهم نصحًا يحميهم من رَدَى أو يحملهم على هُدَى وأنت عليهم مشفق بار راشد، فإياك أن تتعسَّف أو تتَّهم أو تجفو في أسلوبك فتحكم على محاولتك بالفشل المحتم حتى قبل أن تشرع فيها، وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول: «ما أغضبتَ أحدًا فقبل منك»
- حين تصنع ذلك أو بعضه، فأنت تجعل لحياتك معنى، وتصل رَحمَك الأولى: حواء، وتؤدِّي حق قرابتك التي تجتمع معك في أبوّة آدم.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب علمني أبي للشيخ سلمان العودة، صص 132-129
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: