الإسلام هو المرجعية العليا للدولة إنتهينا بفضل الله تعالى ، من المقالات التمهيدية التي مثلت المدخل التاريخي لحديثنا عن الثقافة الدستورية ، وقد مهدنا بتلك المقالات وذلك المدخل للخوض في مباحث وموضوعات هي بمثابة العمق الفكري لما نرتجيه من مقاصد وآمال تتعلق بمستقبل شكل الدولة ونظامها وضوابط تسييرها ومكملات رشدها . ولإيماننا بأن الليبيين شعبا ودولة مسلمون ارتأينا أن نضع بين أيديهم صورة واضحة المعالم فيما يتعلق بقواعد الحكم وإدارة الدولة والعلاقة بين مكونات الدولة وفئات المجتمع ، وأنهينا التمهيد بحقبة الحكم الراشدي باعتبارها المرحلة التي مثلت فهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لمسائل المرجعية والحكم والإدارة . لقد تبين لنا من ذلك الإستعراض ، أن التطبيقات النبوية وحقبة الراشدين ؛ تجعل الإسلام وتنطلق منه كمرجعية عليا للدولة ، وتستمد من المجتمع الشرعية المدنية في الحكم ، وقد مثلت الشورى من خلال لقاءات المسجد والملتقيات العامة في المدينة ، أداة التواصل بين السلطة التنفيذية وعموم شرائح المجتمع . لقد رأينا منهجاً حاسماً ومتميزاً لصيانة الدين والفكر والرأي وإدارة الخلافات ، ولاحظنا الأهداف
الإسلام هو المرجعية العليا للدولة إنتهينا بفضل الله تعالى ، من المقالات التمهيدية التي مثلت المدخل التاريخي لحديثنا عن الثقافة الدستورية ، وقد مهدنا بتلك المقالات وذلك المدخل للخوض في مباحث وموضوعات هي بمثابة العمق الفكري لما نرتجيه من مقاصد وآمال تتعلق بمستقبل شكل الدولة ونظامها وضوابط تسييرها ومكملات رشدها . ولإيماننا بأن الليبيين شعبا ودولة مسلمون ارتأينا أن نضع بين أيديهم صورة واضحة المعالم فيما يتعلق بقواعد الحكم وإدارة الدولة والعلاقة بين مكونات الدولة وفئات المجتمع ، وأنهينا التمهيد بحقبة الحكم الراشدي باعتبارها المرحلة التي مثلت فهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لمسائل المرجعية والحكم والإدارة . لقد تبين لنا من ذلك الإستعراض ، أن التطبيقات النبوية وحقبة الراشدين ؛ تجعل الإسلام وتنطلق منه كمرجعية عليا للدولة ، وتستمد من المجتمع الشرعية المدنية في الحكم ، وقد مثلت الشورى من خلال لقاءات المسجد والملتقيات العامة في المدينة ، أداة التواصل بين السلطة التنفيذية وعموم شرائح المجتمع . لقد رأينا منهجاً حاسماً ومتميزاً لصيانة الدين والفكر والرأي وإدارة الخلافات ، ولاحظنا الأهداف العليا للدولة وهي تستهدف إيجاد نموذج إنساني ملتزم برسالة الإسلام ، متفاعل مع محيطه .. فكانت حركة الفتوحات الإسلامية التي دلت على حيوية الفكر السياسي والثقافي والدعوي لدى المسلمين . واليوم .. واعتباراً من هذا المقال نكون قد وصلنا إلى البداية الحقيقية المستهدفة من سلسلة الثقافة الدستورية ، والتي نعتبر ما قدمنا من المقالات هو التمهيد الطبيعي للخوض في هذا الجزء من سلسلتنا التثقيفية ، وسنبدأ الحديث حول مسائل وموضوعات لها تعلق مباشر بالدستور في شكله المعاصر. ، وستناول في هذا القسم روح الدستور التي نقترح أن تحاكم إليه مواد أي دستور يتم وضعه ، الأمر الذي سيشكل بمجموعه الميزان الذي توزن به كل التفاصيل التي ترد في الصياغة الأولى ، أو أية تعديلات لاحقة للدستور بعد إقراره . لدينا ستة عناوين، نرى أنها مجتمعة تشكل روحاً لأي دستور في أي مجتمع مسلم ، وهي على النحو الآتي : 1- الإسلام هو المرجعية العليا للمجتمع والدولة . 2- الإستخلاف والعمارة هو هدف الوجود الفردي والاجتماعي. 3- محورية دور الأمة. 4- كلية المجتمع وجزئية السلطة. 5- إلزامية الشورى. 6- صون الحريات وحقوق الإنسانية.
اختلاف المرجعيات
بينما كنا نناقش التفاصيل التي سنقتصر عليها في موضوع روح الدستور والتي منها قضية مرجعية الدستور ، بدأنا نطالع في وسائل الإعلام الصدى الواسع الذي قوبلت به كلمات أدلى بها الدكتور " روان وليامز " أسقف كانتربري ورئيس الكنيسة الإنجليكانية ؛ دعا من خلالها إلى ضرورة تفهم خصوصية المسلمين الثقافية ، ومزكياً خيار السماح للمسلمين بالتقاضي أمام محاكم شرعية في الأحوال الشخصية ، وتلخص هذا الصدى في النقد الواسع الذي وجه لوليامز من مختلف الطيف السياسي في بريطانيا ؛ ابتداء من رئيس الحكومة العمالي غوردن براون الذي قال الناطق باسمه إن براون يؤمن بأن القوانين البريطانية ، ينبغي أن تعتمد على القيم البريطانية ، كما اعتبر المحافظون كلمات وليامز غير ذات نفع ، ونادى الليبراليون بضرورة التقيد بالقانون البريطاني . كما أكدت صحيفة التايمز البريطانية على أن وليامز ارتكب خطأً شنيعاً ، وكتبت مقالاً بهذا العنوان ، ولقد استشهد كاتب المقال بأن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قد أكدت سنة 2001 بمخالفة الشريعة الإسلامية للقيم الأوروبية . وتذكرنا الثورة البريطانية ضد تصريحات أسقف كانتربري بالرفض الذي قوبلت به توصية المدعي العام ماريون بويد سنة 2005 ، بأن يسمح للمسلمين في كندا بتطبيق الأحكام الإسلامية ، وأصر الرافضون على ضرورة التزام قانون واحد في كندا . من ناحيتنا لم نستغرب غضب قادة الرأي في بريطانيا وقبلهم رفض كندا السماح للمسلمين بالتحاكم إلى الشريعة في الأحوال الشخصية ، فهي دول وحضارات تنطلق من تصورها الخاص على الكون والحياة والإنسان ، ولكن كان استغرابنا دائماً من دعوات بعض بني قومنا ؛ التي لا تتوقف عن المناداة بضرورة تنحية الإسلام والقيم الإسلامية من مكانها المركزي في حياة مجتمعاتنا المسلمة ، وبحجج تستورد من الغرب البعيد الذي عاد وأكد لنا بأن قيمه خاصة وليس عالمية ، وسماها قيماً بريطانية وكندية ومسيحية ، وهذا خيارهم الذي ينافحون لأجله ، ولكن أين موقعنا نحن من التمسك بقيمنا المنبثقة عن مصدر القيم لدينا وهو الإسلام .
المرجعية الإسلامية
إن مرجعية الدستور للمجتمع والدولة المسلمة هي الإسلام ، المتمثل في أصوله المعروفة وهي القرآن الكريم ، والسنة النبوية الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلي الله عليه وسلم بالطرق العلمية المقررة لدى علماء الحديث ، قال تعالي ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) الأنعام 38 وقال سبحانه ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) النحل49 ، ففي قوله تعالي تبياناً لكل شئ يدخل فيها مرجعية القوانين والتشريعات ، وسلطة القانون والحريات ، وحقوق الإنسان ، والأسس السياسية والاقتصادية ، والاجتماعية والثقافية والإعلامية ، وقد قال عزوجل ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) النساء65 ، وقال تبارك وتعالى ( ثم جعلناك علي شريعة من الأمر فأتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً ، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين ، هذا بصائر للناس وهدي ورحمة لقوم يوقنون ) الجاثية 18 . وهذا يعني أن يلتزم المجتمع والدولة عند وضع السياسات وإصدار القوانين بالمرجعية والهوية الإسلامية ، وأن تصبغ قيم الإسلام النظام العام للدولة ، وتراعي الدولة في مسيرتها وتوجيهاتها ما يرتضيه المجتمع المسلم بناء على القيم والمبادئ الإسلامية ، وبالتالي تتحرك الدولة ومؤسساتها في دائرة المرجعية العليا للمجتمع . ولن ينفعنا محاولة تكرار المقولة المستوردة القائلة بفصل الدين عن الدولة ، ولن يصح محاكمة شعبنا لتلك المقولة وهي دعوى غربية غريبة لن تصمد أمام ثقافتنا وفهمنا للإسلام ، باعتباره نظام حياة وليس مجرد أسلوب عبادة تنظم العلاقة بين الإنسان وخالقه!! إن هذه المقولة النابعة من مرجعية مغايرة لمرجعيتنا ، لا تدرك الواقع في مجتمعنا الليبي المسلم ، ولم تستوعب الأصول التي يرتكز عليها لإسلام ، ويغيب عنها في الغالب قراءة تاريخنا وثقافتنا . إننا هنا لسنا بصدد فرض أو إكراه أي شيء على من حولنا ، وسنترك لمجتمعنا الحق في تقرير المرجعية التي يختارها عقيدة لدستوره وقوانينه ؛ لكننا هنا بصدد أداء حق العلم والنصح والدعوة والبيان . المرجعية الإسلامية عقيدة وليست مبدأ سياسيا إن حديثنا عن المرجعية الإسلامية يرتكز على اعتبار أنها مقتضى لعقيدة المجتمع والدولة ، لا على أساس أنها قيمة سياسية صارمة ، فالمرجعية هي المبادئ الفكرية التي نحتكم إليها في صياغة مسار الدولة والمجتمع ، وهي الأصول التي ترد إليها كل النظم والمعاملات والقيم والأخلاق التي يتحاكم إليها الناس ؛ فالمرجعية هي التي توفق بين تصور المجتمع والدولة للكون والوجود ، وبين الأدوات التي يحكم بها على الأمور الحياتية بالصواب أوالخطأ.
التعددية داخل المرجعية الإسلامية
إن الاتفاق على هوية الدولة ، والإنطلاق من الإسلام كمرجعية عليا ، يفتح الباب واسعاً أمام الاجتهاد والإبداع السياسي والثقافي والإقتصادي والاجتماعي ضمن الإطار المرجعي ، ويمكن أن تتفرع عن هذه المرجعية العديد من الإتجاهات السياسية التي تختلف في ميولها السياسية والأفكار والأهداف المختلفة والمتباينة ، سواء في تنظيم الحكم أو إدارة الاقتصاد أو غيرها من المجالات ، ولن يمنع أن تتبنى التيارات السياسية أي شكل من أشكال نظم الحكم والإدارة ، وصيغ العمل والإستشراف والنهوض . ولن يتعارض كون القرآن والسنة مصدر القيم العليا التي تنبثق عنها وترد إليها الأحكام التفصيلية .. لن يتعارض معها أن تتعدد الاجتهادات وتتباين الآراء وتتغاير بحسب اجتهادات المكان والزمان والناس ، وذلك بقصد إيجاد الحلول للمشاكل والمعالجة للعقبات الاجتماعية والسياسية . فالمرجعية بهذا الفهم تتقبل الإختلاف والتنوع ، ولا تتعارض مع الإنفتاح والتعايش ، والإختلاف في الأحكام لن يضر مادام الإتفاق حاصل على المرجعية الواحدة ؛ فالإسلام قائم علي فكرة الإجتهاد والقول بالدليل ، فليس هناك قرار ديني يحتكره بعض الناس ، حتى الفتوى هي اجتهاد يستند إلى توجيه علمي ، وليست قرارا دينيا .
غير المسلمين في وجود المرجعية الإسلامية ( فقه التعايش )
كما ذكرنا آنفاً، فإن المرجعية الإسلامية تحكم حركة الدولة في نظامها العام وسياقاتها المختلفة ، إلا أنها لا تفرض على غير المسلمين الإيمان بها ، إذ منع الإكراه في الدين هو الأصل الثابت في الفكرة الإسلامية ، ولكن هذه المرجعية تلتزم في القوانين والمبادئ المنبثقة عنها بالعدل والمساواة ، وهذا ما يحتاجه غير المسلم بأن يعامل بعدل وتساوي ، مع محافظة كاملة لخصوصيته الدينية ، وهنا يتضح الفرق بالنسبة لغير المسلمين ، فهم غير مطالبين بالاعتراف بمرجعية الإسلام ، ولكنهم في ذات الوقت مشمولين بالعدل والمساواة ، حيث تتوافر أصوله ومبادئه من داخل قاعدة المرجعية الإسلامية المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، قال تعالى ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين ، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) الممتحنة 8 – 9 ، وقال سبحانه ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ، وقولوا آمنا بالذي أُنزِل إلينا وأُنزِل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) العنكبوت46 ، وقال جل جلاله ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين ) يونس99 ، فهذه النصوص القرآنية تؤكد أن المرجعية الإسلامية لا تعارض التعايش مع غير المسلمين في المجتمع المسلم سواء أكانوا مواطنين أم وافدين وضيوف على هذا المجتمع ، بل نحن على يقين بأن التعامل مع غير المسلمين وفق توجيهات وأحكام الإسلام تعطي هذا التعامل حالة من الثبات التي لا يجوز تغييرها ، ويصبح مصدر الإلزام فيها هو النص القرآني والحديث النبوي ، وبالتالي تنئى حالة التعايش مع غير المسلمين عن التوترات التي تفرضها الآراء المتأثرة بالمصالح الآنية والتأويلات الغرائزية .
الخبرة الإنسانية تحميها المرجعية الإسلامية ( الإنفتاح على الآخرين )
إن الإسلام يشجع على الاستفادة من التجارب الإنسانية ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها ، كما أن متغيرات الحياة في فروعها وأصولها ، وجزئياتها وكلياتها ، هي قاسم مشترك بين أبناء البشر في معالجتها ، والتفكير في حلولها ، والمسلمون شركاء مساهمون في البحث عن حلول ، والتعاون مع المجتمعات الإنسانية في علاج المشاكل التي تمس كل البشرية ، والذي سيضبط اختيارنا لاجتهادات البشرية قربها وبعدها من مرجعيتنا العليا ، فهي التي تمكننا من الحكم بالخطأ أو الصواب على الناتج الإنساني . وهكذا فإن أبواب التعامل مع التجربة الإنسانية مفتوحة على مصراعيها ، في كل المجالات السياسية والاقتصادية والحضارية والطبية والنفسية والاجتماعية والأدبية والثقافية ، وسيمثل فقه مقاصد الشريعة والمصالح ، وفقه المآلات وترتيب الأوليات ، وفقه التيسير ؛ أداة بين أيادي المجتهدين ضمن قاعدة المرجعية الإسلامية للحكم على التجارب والخبرات الإنسانية. والذي يهمنا تقريره هنا .. هو أن ندرك أن الإسلام لا يتصادم مع الفطرة الإنسانية ، وأنه من غايات الإسلام مقاومة الفوضى التي تسود العالم ، وإقرار النظام والنقاء في داخل الإنسان ، وإيجاد التآلف والانسجام في العلاقات الإنسانية ، قال تعالى ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) الحجرات 13 .
تقنين الأحكام الإسلامية ( الإختيارات الفقهية ) ( فقه الترجيح )
بالتأكيد نحن أمام تراث واسع من الإجتهاد الفقهي لعلماء المسلمين ، وقد يتساءل بعضنا أسئلة مشروعة حول الإمكانية التي تمكننا من التعامل بواقعية مع أحكام الإسلام باعتبارها المرجعية العليا لمجتمعنا ، ونحن نميل لترجيح الرأي الذي يقول بتقنين أحكام الشريعة ، وذلك بقصد توفير مادة قانونية راجحة لدى علماء الشرع الحنيف مستعينين في ذلك التقنين بخبراء بعلوم الحياة المتنوعة ، ولا شك إن التقنين يفيد في إبعاد الناس عن وقوع الخلاف في الحكم في النوازل المتشابهة . ويمكن أن نستدل على إيجابية التقنين بالقياس علي تدوين السنة ، فبتدوينها أمكن الوقوف علي الصحيح والضعيف ، كما مكن التدوين من المحافظة عليها والمساعدة علي تطبيقها. كذلك يقاس ذلك على تدوين الفقه ، فالتقنين ما هو إلا صورة من صور وشكل من أشكال تدوين الفقه ، فهو كما يكون في صورة مختصر أو شرح أو منظومة شعر ، يمكن أن يتخذ شكل مواد وهي قواعد مرقمة ، والعبرة بالمضمون لا بالشكل . هذه كلها مسائل عندما وقعت لم يكن السابقون لها قد سلكوها ، ولم يتردد جمهور الصحابة والتابعين والأجيال المتعاقبة من المسلمين في العمل بها . أما وجه المصلحة في هذا التقنين ، فهو ما يبدو من مزايا عدة يمكن تلخيص أهمها على النحو الآتي : 1- التقنين بمثابة ما يمكن العمل به في الروايات المتعددة في المذهب الواحد وفي المذاهب كلها ، ولا يخفي تنوع مصادر الأحكام الفقهية ، وتنوع اجتهادات الفقهاء وآراؤهم في أغلب المسائل التفصيلية ؛ الأمر الذي يتطلب بيان ما ينبغي العمل به في المجتمع والدولة . 2- التقنين عبارة عن اختيار وترجيح يتأتى من العلماء وليس عن طريق فرد كقاضي أو غيره . 3- التقنين يمكن من تحقيق مبدأ رعاية الشريعة الإسلامية لمصالح العباد ويحقق صلاحيتها لكل زمان ومكان ، فالشوري مثلاً حكم ورد في القرآن وقد ضربت السنة أمثله تطبيقية له ، وعمل الفقهاء السابقون في تحديده بحسب ظروف العصر كل عصر ، والبيع مثلاً وردت بعض أحكامه في القرآن والسنة وعمل الفقهاء السابقون في تحديدها بحسب الصورة التي كانت في عصورهم ، ويستطيع الفقهاء المعاصرون تحديد أحكامه بالنسبة للصور المستحدثة ، وهكذا نجد التقنين يعد حلقة إستكمال للبناء الفقهي الإسلامي . 4- التقنين وسيلة لتوحيد سلوك الأمة على حكم واحد مختار من بين الآراء الراجحة في الفقه الإسلامي ، لأنها أحكام تلزم الأمة بالعمل بها. 5- التقنين وسيلة لإلزام الناس بالعمل بوضوح بالشريعة الإسلامية ، ذلك أننا في عصر ألف الناس فيه السير علي قواعد ملزمة تصدرها السلطات المختصة ، وطالما ألف الناس هذا الأسلوب ، فإن مهمة العلماء تبليغ أحكام الله باللغة التي يفهمها الناس في هذا العصر ، ولكل زمن أسلوب في البيان . 6- يمثل التقنين وسيلة لإشراف الدولة على سلامة تطبيق الشريعة الإسلامية ، وذلك عن طريق اختيار الأحكام الملائمة منها وإلزام القضاة ، والإدارات المختصة بالسير علي مقتضاها . 7- ييسر التقنين علي الفقهاء شرح الفقه ومقارنة أحكامه بغيرها في المذاهب المختلفة ، فضلاً عن اشتغال آلاف القضاة والمحامين والطلبة بدراسته ، وفي هذا تيسير لدراسة الشريعة الإسلامية . 8- يسهل التقنين علي المحاكم تنسيق الشريعة الإسلامية ، لأنه سيعاون القاضي علي العثور على الحكم الشرعي واجب التطبيق دون بحث عنه في المراجع العديدة ، التي قد لا يجدها أو يحول وقته دون قراءتها أو يصعب عليه فهمها أو اختيار الحل المناسب من بين الآراء المتعددة . 9- ينهي التقنين تعارض الأحكام الصادرة ، لأنه لو ترك للقضاة اختيار الحل المناسب من المراجع الفقهية لاختلفت أحكامهم بتعدد الآراء الموجودة في كتب الفقه الأمر الذي قد يشكك أو يسئ إلى سمعة القضاء . 10- ييسر التقنين على الأفراد التعرف علي أحكام الشريعة الإسلامية المعمول بها وذلك من خلال عبارات مفهومة مصاغة بطريقة قانونية واضحة , وهو الأمر الذي يدعم يدعم الإلتزام بأحكام الشريعة ، فالعلم والمعرفة يدعمان الإلتزام بالأحكام . 11- عدم تقنين أحكام الشريعة الإسلامية ، دفع العديد من الدول إلي اقتباس القوانين الأجنبية ، والتي مع مخالفتها للإسلام فإن تطبيقها غير ممكن فبعض الدول اقتبست من القانون الفرنسي المبني على القانون الروماني حكما يوجب على المرأة النفقة على زوجها وأخوالها وأعمامها ، وهو أمر لا يحكم به القضاة لمخالفته الصريحة لأحكام الشريعة الإسلامية ، ولعدم تقبل الناس لذلك الحكم ، وهو مع تعطله قد عطل معه أحكاماً أخرى جاء بها الإسلام في باب النفقة ، وهذه المفسدة لا يدرأها إلا تقنين أحكام الشريعة الإسلامية ، وتيسير التعاطي مع موادها وهداياتها . 12- إن التقنين هو صياغة حديثة لأحكام الفقه الإسلامي ، وهي طريقة تستوعب أحكام المشكلات المستحدثة ، والبديل لتقنين أحكام الشريعة الإسلامية هو تقعيد أحكامها وإيجاد سوابق قضائية للعمل بها ، وهذا يتطلب وجود كثرة من القضاة المجتهدين ، والفقهاء المجتهدين وهو أمر قد يكون الآن أصعب من تقنين أحكام الشريعة الإسلامية ، ولعدم الوقوع في سلبية التقنين التي تتمثل في تجميده للأحكام وقفل باب النظر إليها ، وجب النص قانوناً على وجود مراجعة التقنين في فترات محددة ، ويوكل الأمر لمؤسسات علمية خاصة تواصل هي باستمرار هذه المراجعة للأحكام التي قننت ، وتنظر باستمرار في النوازل الجديدة الحادثة ، كما نرجح أن يتم التقنين بناءً على إختيارات وترجيحات مقاصدية ؛ تستشرف آفاق التدين وتضع في اعتبارها النوازل والحوادث والمستجدات التي يشكل التعامل معها ومعالجتها أولوية المجتمع ومصالح التيسير المعتبرة ، والمنضبطه بالمصادر الأصلية المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية . كما أن التقنين يقتصر علي القواعد العامة فلا محل لأن تتعرض اللجان والمجالس المختصة لتفصيلات التطبيق ، فذلك أمر يترك لاجتهاد القضاة ولشروح الفقه .
الكاتب: د. علي الصلابي
أ. إسماعيل كريتلي
المصدر: حركة التوحيد والإصلاح