اهتم العباسيون بالشريعة الإسلامية منذ أن كانوا تنظيماً سرياً، ومن أهم مبادئ وشعارات الدعوة العباسية التي رفعتها ونادت بها.
1. الدعوة إلى الإصلاح:
لقد رفع العباسيون شعار الدعوة إلى الإصلاح، والتمسك بالكتاب والسنة، والمساواة بين الشعوب، وإنصاف الشعوب التي أسلمت واندمجت في الحضارة الإسلامية، وهذه الشعارات تُعدّ من صميم أهداف الشريعة الإسلامية، وتدل على معنى خاص في ديننا، وهو عدم التفرقة بين الناس بحسب ألوانهم أو دمائهم أو تاريخهم، وبيان أن أكرم الناس عند الله أتقاهم. وقد تمسك العباسيون بهذا المبدأ، وشنعوا به على بني أمية، وزعموا في حملتهم الدعائية أنهم(بني أمية) انحرفوا عن هذا المبدأ الإسلامي الأصيل وحاولوا أن يبينوا للناس أن قضيتهم هي قضية جهاد الحق ضد الباطل.
2. المرجعية الشرعية للدعوة العباسية:
تعتبر مدرسة عبد الله بن عباس المكية هي المرجعية الحركية والشرعية لهم، فقد اهتم ابنه علي بن عبد الله بن العباس بتراث أبيه وعلومه، وقد ألزم ابنه محمداً وهو من زعماء الدعوة العباسية أصحاب جده ابن عباس، حتى تعلم وفقه وجلس يوماً يفتي في المسجد الحرام بمثل فتيا جده، وقد أبهرت فتواه سعيد بن جبير -رضي الله عنه- حين سمعه فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني رجلاً من ولد ابن عباس يفتي بفتواه. والمعلوم لدى الباحثين أن عبد الله بن عباس تقدم في التفسير بسبب عوامل متعددة منها: دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالفقه في الدين والعمل بالتأويل، وكذلك قرب منزلته من عمر -رضي الله عنه-، والأخذ عن كبار الصحابة، وقوة الاجتهاد، وقدرته على الاستنباط، قدرات ابن عباس التربوية والتعليمية، ورحلاته وأسفاره ووفاته، وكان ابن عباس من علماء المدرسة المكية، وقد تميزت هذه المدرسة من بين المدارس بكثرة تناولها للآيات وتفسيرها، وساهمت مساهمة قيمة في الإبانة عن كثير من المعاني التي يحتاج إليها، ويرجع ذلك لأسباب عديدة منها: إمامة ابن عباس للمدرسة، الأثر المكاني للمدرسة كونها بمكة، وكثرة رحلاتهم وأسفارهم، وحرصهم على نشر علمهم، والتصنيف والتدوين المبكر لآثار المدرسة.
3. من رسائل محمد علي العباسي إلى أتباعه:
سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، وأشهد أن الله يبدئ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه، وله المثل الأعلى في السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم فتبارك ذو الفضل العظيم أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله الذي لا يزيد في ملكه من أطاعه، ولا ينقص في ملكه من عصاه، بيده الملك، ويبقى ملكه وهو عزيز ذو انتقام، وتمسكوا بصالح الذي عاهدتم الله عليه، وأدوا الأمانة فيما أمركم به، (واعتصموا بحبل الله جميعاً)، وخذوا بحظكم منه، واشكروا لله الذي أسبغ لكم من سوابغ نعمه، اعتبروا ما بقي بما سلف، وإنما ضرب لكم أمثال ما مضى من الأمم لتعقلوا عن الله أمره بأنكم قد رأيتم من الدنيا وتصرفها بأهلها إلى ما صار من مضى منهم، وخير ما يعيب الناس فيما بقي من الدنيا .. ثم اعلموا علماً يقيناً أن لأهل ولاية الله منازل معروفة كأنما ينظرون فيما أعطاهم الله من اليقين إلى عواقب الأمور ومستقرها، لا تصدقوا كذباً، ولا تجمعوا خبيثاً، ولا تخالفوا تقيا، ولا تحتقروا يتيماً صغيراً، ولا تنتهكوا ذمة، ولا تفسدوا أرضاً، ولا تقطعوا رحماً، ولا تعصوا إماماً، وأحسنوا مؤازرتهم، وصيانة أمرهم، أعينوهم إذا شاهدتم، انصحوا لهم إذا رغبتم، اعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق التقوى لزوم حقه، وخير الملل ملة إبراهيم، وأفضل السنن سنة محمد -صلى الله عليه وسلم- وأعظم الضلالة بعد هدى. ونفس تناجيها بتقوى الله خير من نفس أمارة بالسوء، فاتقوا الله، ولا تكونوا أشباهاً للجناة الذين لم يتفقهوا في الدين، ولم يعطوا الله باليقين، وأن الله أنزل عليكم كتاباً واضحاً ناطقاً محفوظاً قد فصل فيه آياته، وأحكم فيه تبيانه، وبين لكم حلاله وحرامه، وأمركم أن تتخذوا ما فيه، فاتخذوه إماماً وليكنْ لكم قائداً دليلاً فعليكم به، ولا تؤثروا عليه غيره، فإن الله بين لكم ما تأتون وما تتقون، فقال لنبي الرحمة (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن). [الأعراف: آية 33]. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم (قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) [الأعراف:29]. أسال الله أن يجعلنا وإياكم مهتدين غير مرتابين والسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وقال في رسالة ثانية بعد أن تبرأ وحذر من خداش أحد المنحرفين عن الكتاب والسنة والدعوة العباسية جاء في الرسالة: أما بعد عهدنا الله وإياكم بطاعته، وهدانا وإياكم بطاعته سبيل الراشدين، فقد كنت أعلمت إخوانكم رأيي في خداش، وأمرتهم أن يبلغوكم قولي فيه، وإني أشهد الله الذي يحفظ ما تلفظ به العباد زكي القول وخبيثه وإني بريء من خداش، وممن كان على رأيه ودان بدينه، وآمركم ألاّ تقبلوا من أحد ممن أتاكم عني قولاً، ولا رسالة خالفت فيها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
4. أخذ البيعة:
عندما أعلن العباسيون الثورة على الأمويين أخذوا البيعة من الناس على مبادئهم، والتي كانت العمل بالكتاب والسنة، وتحقيق العدل، ورفع الظلم، والمساواة بين المسلمين، وإنصاف المستضعفين، والبيعة للرضا من آل محمد. وعندما خطب داود بن علي عم العباس في أهل الكوفة خطبة جاء فيها: فلكم علينا ذمة الله وذمة رسوله وذمة العباس أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل بكتاب الله، ونسير في العامة منكم والخاصة سيرة رسول الله.. وليس معنى هذا أن العباسيين التزموا بأحكام الله تامة وإنما مرجعية الدولة ودستورها هو الإسلام، وحدث ضمور في الفقه السياسي المتعلق باختيار الخليفة؛ إذ جعلوها وراثية في بني العباس، إلاّ أن تحكيم الشريعة في باقي مناحي الحياة كان حاضراً، والدليل على ذلك ظهور المدارس الفقهية الأربعة وكتابة كتب الحديث التي كانت في العهد العباسي.
5. الخلفاء العباسيون:
قامت الدولة العباسية على فكرة الإسلام وتطبيق أحكامه، وقد قال أبوجعفر المنصور لابنه المهدي: إن الخليفة لا يصلحه إلاّ التقوى، والسلطان لا يصلحه إلاّ الطاعة، والرعية لا يصلحها إلاّ العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلاً مَن ظلم من دونه.
وكان المنصور في أول النهار يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والولايات والعزل والنظر في المصالح العامة. وقد اهتم العباسيون بالعدل، وأخذ مجراه بين الناس من خلال مؤسسة القضاء التي تطورت في ذلك العهد، وأحاط العباسيون القاضي باحترام كبير؛ فهو عمود السلطات وقوام الدين، وقد تجلت هيبة القضاء في عهد الخليفة المهدى الذي كان يجل القضاة، ويحترم مجالسهم، ويحرص كل الحرص على أن يكون القاضي نزيهاً بعيداً عن التأثر بذوي الجاه والسلطان، وألاّ يحابي أحداً مهما كانت منزلته وإن كان الخليفة نفسه.
لقد اشتهر أبو جعفر الخليفة المنصور قبل تأسيس الدولة العباسية بتردده عل حلقات المساجد وطلب العلم والفقه والآثار؛ فقد كان مقدماً في علم الكلام، ومكثراً من كتابة الآثار وكان صاحب معرفة بالفقه والفقهاء، مما مكنه لاحقاً من التعامل بطريقة مناسبة مع الفقهاء واستقطابهم للدولة الناشئة. وبعد تأسيس الدولة العباسية استمر خلفاء بني العباس في التأكيد على المظاهر الإسلامية للخلافة، وأظهروا التزامهم بالدين (2). ولقد كان للخليفة العباسي الثاني أبي جعفر عبد الله بن محمد 136هـ/753م/-151هـ/774م الدور الأكبر في ترسيخ هذه السياسة لما كان يتميز به من شخصية فذة، فقد كان عهده متميزاً على كافة الصعد، ويُنظر إليه على أنه المؤسس الحقيقي للدولة العباسية؛ فهو الذي أصّل الدولة، وضبط المملكة، ورتب القواعد.
* اهتمامه بالقضاء:
فقد اهتم أبو جعفر المنصور بالقضاء بشكل ملحوظ، فكان أول خليفة يعين القضاة بعد أن كان هذا الأمر موكولاً إلى ولاة الأمصار، فقد قال الخطيب البغدادي: إن ولاة الأمصار كانوا يستقضون القضاة، ويولونهم دون الخلفاء قبل أبي جعفر المنصور. فلماء جاء أبو جعفر قام بتعيين القضاة بنفسه على اعتبار أن هذه الوظيفة من مهام الخليفة. وقد قال المنصور لما عين عبيد الله بن الحسن العنبري قاضياً على البصرة: إني قد قلدتك طوقاً مما قلدني الله طوقاً. ومن الفقهاء الذين قام المنصور بتعيينهم بنفسه.. الحسن بن عمارة، وشريك بن عبد الله النخعي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبيد الله بن الحسن العنبري. ومن الحوادث في تاريخ القضاء في عهد المنصور أن أحد القادة الميدانين للخليفة أبي جعفر المنصور اختصم مع أحد التجار في قطعة أرض في البصرة، فلما مثلا أمام القضاء -وكان القاضي يومها في البصرة سوار بن عبد الله حكم القاضي- حكم بأن الأرض للتاجر، وليست للقائد فدفع القائد شكواه إلى أمير المؤمنين المنصور، فكتب المنصور إلى القاضي سوار يطلب منه أن يرد الأرض إلى القائد، فكتب إليه القاضي: يا أمير المؤمنين :إن البينة قد قامت عندي أن الأرض للتاجر، فلست أخرجها من يديه إلاّ ببينة ودليل، فكتب إليه المنصور لتدفعنها إلى فلان القائد، فرد القاضي برسالة قصيرة كتب فيها: والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجها من يدي التاجر الفلاني إلاّ بحق، وقد قامت البينة عندي أنها للتاجر، فلما جاء كتاب القاضي إلى الخليفة المنصور تبسم المنصور، وقال: ملأتها والله عدلاً. الحمد لله الذي صار قضاتي تردني إلى الحق، وأظهر أبو جعفر المنصور أهليته العلمية من خلال اهتمامه بالشؤون القضائية، فقد أراد شريك بن عبد الله النخعي على القضاء، فاعتذر شريك بأنه لا يحسن ذلك، فما كان من المنصور إلاّ أن قال له: اذهب فأنفذ ما أحسنت، وتكتب إلي فيما لا تحسن.
* رغبة المنصور في توليه العلماء العاملين أمور البلاد والعباد:
سافر أبو جعفر المنصور إلى أماكن عدة من أرض الخلافة يتفقد أحوال الرعية، وكان يلتقي في كل مدينة بعلمائها وأثناء رحلته في يوم من الأيام. ودعه الإمام الجليل المعروف بالإمام ليث بن سعد الفقيه المحدث – عند بيت المقدس فقال المنصور – عند وداعه: يا إمام، أعجبني ما رأيت من عقلك، ولقد فرحت إذ أبقى الله في الرعية مثلك، ثم قال: ألا تدلني على رجل أجعله والياً على مصر؟ فسكت الليث قليلاً، وقبل أن يذكر له اسم أحد العلماء العاملين المعروفين بحكمتهم وحسن إدارتهم. قال المنصور: فما يمنعك أنت يا أمام أن تكون والياً على مصر؟ فقال الليث: يا أمير المؤمنين، أنا لا أقوى وأنا ضعيف، ولا يجوز لك أن تولي الضعفاء ومن ليسوا أهلاً للولاية، فتبسم المنصور وقال: بل أنت قوي ولكن ضعفت نيتك في العمل في هذا الأمر.
*محاولة توحيد التشريع وإخضاع الناس لأحكام موحدة:
حاول أبو جعفر المنصور مع الإمام مالك توحيد التشريع وإخضاع الناس لأحكام موحدة، فقد توجه إلى الإمام مالك بن أنس قائلاً: قد أردت أن أجعل هذا العلم علماً واحداً فأكتب به إلى الأمراء والأجناد وإلى القضاة فيعملون به، فمن خالف ضربت عنقه. إلاّ أن الإمام مالك رفض هذا الأمر وأكد على شرعية الاختلاف بين الفقهاء.
* الخليفة المهدي (158هـ/ 774م -169هـ/ 785م):
لقد عهد الخليفة المهدي بسياسات تتسم بالتسامح والمرونة والعدل، فرد المظالم وشهد الصلوات في جماعة، وفرق خزائن المنصور في سبيل الخير، ووسّع المسجد الحرام، وأمر بنزع المقاصير عن المساجد وتقصير المنابر إلى الحد الذي كان عليه منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعُني المهدي بأمر القضاء، فكان إذا جلس للمظالم قال: أدخلوا علي القضاة فلو لم يكن ردي للمظالم إلاّ حيائي منهم لكفى. واقتفاء لأثر أبيه كان المهدي يعين القضاة بنفسه. وقال المهدي لسفيان الثوري: اصحبني حتى أسير فيكم سيرة العمرين. وفي رواية أخرى خلع خاتمة وقال له: هذا خاتمي فأعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة. كما عرض عليه أن يتولى القضاء إلاّ أنه رفض هذه العروض. وعمد الخلفاء العباسيون إلى استشارة الفقهاء في بعض القضايا، فقد استشار الخليفة المهدي مالك بن أنس في إنقاص منبر رسول الله وإعادته إلى ما كان عليه.
ومن جهة أخرى كانت السلطة العباسية تستخدم القوة مع الفقهاء إذا ما ظهر منهم مواقف معارضة للسلطة، وقد أيدت مجموعة من الفقهاء السلطة العباسية، وتعاملت معها على أساس أنها دولة الخلافة صاحبة الشرعية الإسلامية، ونتيجة لذلك ارتبط عدد من الفقهاء بعلاقات ودية مع خلفاء الدولة العباسية، فقد كان الحجاج بن أرطأة من أصحاب أبي جعفر المنصور، ثم ضمه إلى ابنه المهدي فظل ملازماً له. ونتيجة لهذه العلاقة الحسنة قدم هؤلاء الفقهاء المشورة والنصح للسلطة العباسية في القضايا التي تحتاج السلطة فيها إلى مساعدتهم، فكتب القاضي عبيد الله بن الحسن العنبري كتاباً إلى الخليفة المهدي اشتمل على عدد من النصائح في موضوعات متفرقة، أكد في بداية الكتاب على أهمية السلطة في حياة المسلمين، وضرورتها لما بها من نفع لهم، فمن خلالها تُطبق الأحكام فتسكن البلاد، وتستقر العباد، وبها تُحمى البيضة، ويُصدّ الأعداء وتُحمى الثغور، ثم ذكّر الخليفة بالحقوق الملقاة على عاتقه وجزيل الثواب الذي ينتظره في الآخرة إن هو أداها على الوجه الذي ينبغي وبعد ذلك عدد له الخصال التي يحملها الخليفة عن الأمة وهي: الثغور والأحكام والفيء والصدقة، فحثه على سد الثغور ومدها بأهل النجدة والشجاعة. أما على صعيد الأحكام، فقد بين للخليفة مصدرها وهي الكتاب والسنة وإجماع الأئمة الفقهاء وأخيراً اجتهاد الحاكم مع مشاورة أهل العلم، وبالنسبة للفيء والصدقة فقد نصح الخليفة بتحري العدل، والتخفيف عن أهل الخراج، وأن تُصرف الأموال في مصارفها الشرعية، وأن يقتفي الخليفة أثر الخلفاء الراشدين كعمر بن الخطاب في تحديد مصارف هذه الأموال، وأشار على الخليفة بتوسيع قاعدة الشورى. فقال له: فإن رأى أمير المؤمنين أن يكون بحضرته قوم منتخبون من أهل الأمصار، أهل صدق وعلم بالسنة، وأولو حنكة وعقول وورع لما يرد من أمور الناس وأحكامهم وما يُرفع إليه من مظالم فليفعل .. ففي ذلك عون وصدق على ما فيه -إن شاء الله- وقد قال الله -عز وجل- لنبيه صلى الله عليه وسلم – والوحي ينزل عليه، وهو خير وأبقى وأبر وأعلم ممن سواه من الناس (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). [آل عمران:159]. وقال للقوم وهو يصف حسن أعمالهم: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).[لشورى:38].
*الخلفية هارون الرشيد: (170هـ/786م –193هـ/808 م):
اهتم الخلفية الرشيد بشكل واضح بالقضاء،فكان يعين القضاة بنفسه،ويتابع أمورهم،فيعزل بعضهم، يستبدل بآخرين، ويرى الدكتور عبد الرازق الأنباري أن هذا الاهتمام الكبير من قبل الرشيد بالقضاء جعله يستحدث منصب قاضي القضاة ليلي هذه المهمة قاضياَ كبيراً يتولى جانباً من مسؤوليات الخليفة في القضاء وبتخويل منه. ومن منطلق العمل بالكتاب والسنة الذي نادت به السلطة العباسية ولتقريب الفقهاء إليها.. وقف الخلفاء العباسيون في وجه الحركات المبتدعة التي سعت إلى ضرب الإسلام والتشكيك فيه. وكان الرشيد يستشير الفقهاء والعلماء في أمور الدولة الهامة، كما كانوا يشهدونهم على الكتب الهامة فقد أشهد القضاة والفقهاء على ما كتبة لأبنائه من بعده، ويُلاحظ اهتمام بالغ من قبل الخليفة الرشيد بالفقهاء، فكان إذا حج أحج معه مائة من الفقهاء، كما كان يستمع للمواعظ، ويبكي لذلك، وعندما سمع الرشيد بخبر وفاة الفقيه عبد الله بن المبارك استرجع، وأمر وزيره الفضل بن الربيع أن يأذن للناس بتعزيته لوفاه ابن المبارك، فأظهر الوزير تعجباً، فقال الرشيد: ويحك إن عبد الله بن المبارك هو الذي يقول:
اللهُ يـــدفعُ بالســـلطان معـــــضـــلةً |
عن ديننا رحــــمةً منـــه ورضـــوانا |
|
لـــولا الأئمــــةُ لــــم تأمــنْ لنا سُبلٌ |
وكـــان أضــعـــفُنا نهــباً لأقــــــوانا |
وكان الرشيد يطلب من بعض العلماء تدريس أبنائه، فقد كان يبعث أولاده محمد وعبد الله إلى الفقهاء والمحدثين، فيسمعون منهم ورحل الرشيد بولديه محمد وعبد الله لسماع الموطأ على الإمام مالك بن أنس، وكان هارون الرشيد يصحب العلماء والأولياء، ويحافظ على الصلوات والعبادات، ويصلي الصبح في وقته، ويغزو عاماً ويحج عاماً، وكان يتصدق كل يوم من صلب ماله بألف درهم، ويصلي في كل يوم مئة ركعة. وتتلمذ على علماء كبار، عرفوا بالورع والتعفف، أمثال: علي بن حمزة الكسائي أحد شيوخ القراءات السبع وإمام من أئمة الكوفة في اللغة والنحو والأخبار، وجالس في شبابه فقهاء عصره، كأبي يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهما من القضاة ورجال الاجتهاد في الفقه الإسلامي، وبقي على صلته بهم حتى آخر أيامه. وكان لشدة تمسكه بالدين يكره المراء والجدل فيه ويقول: إن الجدل في الدين شيء لا فائدة منه، وبالأحرى أن لا يكون فيه ثواب. وقد أجمع الرواة والمؤرخون على أنه كان من أرق الخلفاء وجهاً، وأكثرهم حياء، وأخشعهم قلباً، وأغزرهم دمعاً عند الموعظة الحسنة. وكان من أروع ما قيل له في الوعظ ما قاله له البهلول لهارون الرشيد: هب أن مملكة الدنيا تُساق إليك أليس آخر ذلك كله الموت، فآخر ما ترى القبر واللحد والثرى؟ وإياك والظلم فإن الملك إذا اشتهر بالظلم بغضته الرعية، وإذا بغضته الرعية خالفته، والمخالفة سبب المحاربة، فالفتنة نجوى ثم شكوى ثم بلوى (4).
* فهم هارون الرشيد للقران الكريم والعيش معه:
تعدى ناسك للرشيد وهو في صيده، فوعظه وأغلظ عليه فقال الرشيد: يا هذا أنصفني في المخاطبة والمسألة!! قال الناسك: ذاك أقل ما يجب لك قال: أخبرني: أأنا شر وأخبث أم فرعون؟ قال: بل فرعون. قال فأخبرني: أأنت خير أم موسى بن عمران؟ قال: موسى صفي الله وكليمه. قال الرشيد: أفما علمت أنه لما بعثه الله وآخاه هارون إلى فرعون في عتوه قال لهما : (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى). قال: نعم. قال: هذا فرعون في عتوه وجبروته وأنت جئتني وأنا بهذه الحالة التي تعلم أؤدي فرائض الله عليّ، ولا أعبد أحداً سواه، واقفاً عند أكبر حدوده وأمره ونهيه فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأشنعها وأخشن الكلام وأفظعه فلا بأدب الله تأدبت ولا بأخلاق الصالحين أخذت فمن كان يؤمنك أن أسطو بك، فإذا أنت
وقد عرّضت نفسك لما كنت عنه غنياً؟ قال الناسك: أخطأتُ يا أمير المؤمنين، وأنا أستغفر الله. قال: غفر الله لك. اذهب إلى حال سبيلك.
حرص الرشيد على رفع الظلم عن الرعية: يقول أبو يوسف القاضي في مقدمة كتابه الخراج مخاطباًَ الرشيد: إن أمير المؤمنين أيده الله تعالى، سألني أن أضع له كتاباً جامعاً يعمل به في جباية الخراج والعشور والصدقات والجوالي، وغير ذلك مما يجب النظر فيه والعمل به، وإنما أراد ذلك لرفع الظلم عن رعيته والصلاح لأمرهم. وقد كتبت لك ما أمرت به وشرحته لك وبينته، فتفقهه وتدبره، وردد قراءته حتى تحفظه، وكتبت لك أحاديث حسنة، فيها ترغيب وتحضيض على ما سألت عنه، مما تريد العمل إن شاء الله. وفي هذا شهادة صادقة على اهتمام هارون الرشيد فيما يجب عليه فهمه، وكان يردد في مناسبات كثيرة قوله: إنه يقبح بالسلطان أن لا يكون عالماً. لقد كتب القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري رسالته المعروفة باسم (الخراج)، وهي لا تقف عند الخراج وحده. بل تتحدث عن رسالة الحاكم وحدوده الملزمة في شريعة الإسلام بما يعمهم بالخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة، وقد علق الشيخ الخضري على هذا الكتاب بقوله: كان خليفة المسلمين فى هذا التاريخ خامس بني العباس هارون الرشيد، وكان قاضي قضاته أبا يوسف، وقد أحب أن يسود العدل بين أمته، وأن تنظم أمور الجباية على النمط المشروع الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، حتى لا يقع حيف على الرعية فيثقل الجور كاهلهم ويخرب عمرانهم، وحتى يكون بيت المال قائماً بما يجب عليه من معالم الأمة وحفظ ثغورها وتأمين طرقها، ثم قال الخضري: لم يكن أبو يوسف في رسالته ذلك الفقيه الجاف الذي هو في خيال الكثير منا يكتب جوابه مبتوراً منقولاً عن مسطر سبق به أو ذلك المفتي الضعيف، ينظر إلى غرض المستفتي فيجتهد أن تكون فتواه طبق رغبته، بل كان ذلك العالم الناصح الذي سبر الأمة فعرف ما يصلحها وأدرك طرفاً من الشدة ولا استعفاء من غير أن يظلموا أو يحملوا ما لا يجب عليهم، واللين للمسلم والغلظة على الفاجر، والعدل على أهل الذمة وإنصاف المظلوم والشدة على الظالم والعفو عن الناس. وقال أيضاً: فلا يحل للإمام ولا يسعه أن يقطع أحداً من الناس حق مسلم ولا مجاهد ولا يخرج من يده شيئاً إلاّ بحق يجب له عليه فيأخذه بذلك الذي وجب عليه فيقطعه من أحب من الناس فذلك جائز له.
ووضع أبو يوسف مبدأ هاماً هو أنه: ليس للإمام أن يخرج شيئاً من يد أحد إلاّ بحق ثابت معروف: وفي عبارة بليغة يقول أبو يوسف أن الرعاة مؤدون إلى ربهم ما يؤدي الراعي إلى ربه، فأقم الحق فيما ولاك الله وقلدك ولو ساعة من نهار (3) . ويحذر أبو يوسف الحاكم من عدم مراعاة الحقوق بقوله: فلا تلقَ الله غداً وأنت سالك سبيل المعتدين فإت ديان الله يوم الدين إنما يدين العباد بأعمالهم ولا يدينهم بمنازلهم: ويبين أبو يوسف أساس ذلك بقوله: وإن الله بمنه ورحمته جعل ولاة الأمر خلفاء في أرضه وجعل لهم نوراً يضيء للرعية ما أظلم عليهم من الأمور فيما بينهم وبين ما أشتبه من الحقوق. وهكذا جعل قاضي قضاة هارون الرشيد مراعاة حقوق الناس وعدم ظلمهم بمثابة (النور) الذي يضيء للحاكم سبيله ومسالكه، فأين حكام هذا الزمان من هذا البيان، وإن انتهاك حقوق الناس ظلام فى الدنيا وهم وغم وسوء مآل فى الآخرة.
*بعض صور العدل في الدولة العباسية:
1- حقوق المسـاجين: ومن ألطف ما ذهب إليه القاضي أن يجري راتباً شهرياً للمسجون؛ إذ إن الطعام من خبز وغيره كثيراً ما يغتصب أكثره حارسو السجن، ويدّعون أنه صُرف لمستحقه، فلا بد إذن من تخصيص كاتب ينهض بتدوين الأسماء ويشرف على التوزيع في كل مرة، وقد لاحظ القاضي أن بعض المسجونين يخرجون في السلاسل، يسألون الناس، ورأى ذلك مهانة للدولة لابد أن يتلافاها القائمون بالأمر، وما تكفف هؤلاء، وطلبوا القوت من المارة إلاّ لأنهم حرموه، وذلك جرم كبير وواصل القاضي حديثه عن المسجونين فقال مخاطباًَ هارون الرشيد: ومر من سر الدين الذي أوحى الله به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإصلاح الأمة فجال في ميدانه جولة الفارس العالم بثنيات الطريق، وأحاط علماً بتاريخ المسائل التي يفتي فيها، فبينما نراه واعظاً لا يخاف فى الله لومة لائم يصوغ من كلمات النصح أشدها وقعاً وأقواها تأثيراً؛ إذ هو مؤرخ يسرد تاريخ الأمور المالية وغيرها وكيف وضعها السلف الصالح وكيف كان غرضهم من ذلك، وبينما أنت تستخرج من لطائف التاريخ إذا بك تراه يستنبط الأحكام من تلك الوقائع مستناً بسنة أسلافه الطيبين والطاهرين، ثم تراه قد سبر ما يفعله الخراج والجبايات وحواشيهم من المظالم التي يرهقون بها الرعية، ويضرون بها العمارة، فينبه الإمام إلى مخازيهم، ويرفع صوته طالباً إجراء العدالة فيهم، وبشير على إمامه بما يجب عليه من رعاية تنفيذ الحق ليكون ناجياً بين يدي الله سبحانه وتعالى(1) . لقد طلب هارون الرشيد كبير ملوك الأرض فى عصره تصنيف كتاب الخراج، وقد احتوى هذا الكتاب الكثير من مسائل القانون الدولي والعلاقات الدولية من المنظور الإسلامي، ويعتبر بحق وثيقة دستورية في هذا المجال، ومن أهم المسائل التي عالجها القاضي أبو يوسف في كتابة المذكور: حقوق الإنسان الراعي والرعية، الرسل أو السفراء الجواسيس، الحدود الدولية، كيفية معاملة غير المسلمين، والتحكيم الدولي، قانون المياه الدولية، العشور التي تُفرض على أموال التجارة الدولية، الحروب الأهلية، حروب البغي.
2- حقوق الإنسان عند قاضي قضاة هارون الرشيد: عالج أبو يوسف مسألة حقوق الإنسان من نواحي عديدة، ويمكن إجمال آراء أبي يوسف في هذا المقام كالآتي:
أ- أساس حقوق الإنسان: عند أبي يوسف (أقم الحق ولو ساعة) يقول أبو يوسف: وإنما هلك من هلك من الأمم بحبسهم الحق حتى يُشترى منهم وإظهارهم الظلم حتى يُفتدى منهم وقال: وتقدم إلى من وليت أن لا يكون عسوفاً لأهله، ولا محتقراً لهم، ولا مستخفاً بهم، ولكن يلبس لهم جلباباً من اللين يشوبه بالإجراء عليهم دون تأخير، ومن مات منهم ولم يكن له ولي ولا قرابة غُسّل وكفن من بيت مال المسلمين، وصلي عليه ودفن، فإنه قد بلغني من الثقات أنه ربما مات الميت الغريب في السجن، فمكث به يومين حتى يستأمر الوالي في دفنه، وحتى يجمع أهل السجن من عندهم ما يتصدقون ويكنزون كي يحمل إلى المقابر، فيُدفن بلا غسل ولا كفن ولا صلاة، فما أعظم هذا في الإسلام وأهله!!
ب - عدم التعذيب أو الضرب: بيّن أبو يوسف لهارون الرشيد أن أهل الحبوس يضربون المساجين، وهذا مما لا يحل ولا يسع، وعلة قاضي قضاة هارون الرشيد أن ظهر المؤمن حمى إلاّ من حق يجب بفجور أو قذف أو سكر أو تعزير لأمر أتاه لا يجب فيه حد.
ج - درء الحدود بالشبهات: يرى أبو يوسف أن تطبيق الحدود يتطلب عدم وجود أية شبهة؛ إذ يقرر ولا يحل للإمام أن يحابي فى الحد أحداً ولا تزيله عنه شفاعة، ولا ينبغي له أن يخاف في ذلك لومة لائم، إلاّ أن يكون حد فيه شبهة، فإذا كان في الحد شبهة درأه لما جاء في ذلك من الآثار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين، قولهم: "ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم والخطأ في العفو خير من الخطأ فى العقوبة".
د - عدم أخذ الناس بالتهمة: كم هناك من أناس أبرياء يوضعون موضع المتهمين بغير حق، ودونما دليل أكيد وانطلاقاً من نزعته الإنسانية أكد أبو يوسف على ضرورة الاحتياط والتثبت في هذا المجال الذي تتعرض فيه أخص حقوق الإنسان للانتهاك. وقد وضع قاضي قضاة هارون الرشيد قاعدة وهي: ألاّ يُقام على متهم حد إلاّ ببينة عادلة أو بإقرار من غير تهديد من الوالي له أو وعيد.
هـ - معاقبة المسؤولين عن انتهاك حقوق الإنسان وعزلهم: لا جرم أن مجازاة من ينتهكون حقوق البشر تشكل أمراً لازماً لازباً لحماية تلك الحقوق، والذي يمكن الخلوص إليه من طريقة تعامل قاضي قضاة هارون الرشيد لإقامة العدل وإحقاق الحق ونصرة الضعيف كما يلي:
- ضرورة معاقبة من ينتهك حقوق الناس: بالعقوبة الموجهة والنكال.
- أن علة ذلك تكمن في أمرين: فمن ناحية إذا لم يفعل الحاكم بهم ذلك فقد يُحمل على أن عامله قد أُمر بالظلم.
- ومن شأن ذلك ردع الظالمين الآخرين؛ لأن الحاكم إن أوقع على واحد منهم العقوبة الموجهة انتهى غيره واتقى وخاف، وهذا ما أشار إليه قاضي قضاة هارون الرشيد فإنك متى أثبت على حسن السيرة والأمانة وعاقبت على الظلم والتعدي لما تأمر به فى الرعية يزيد المحسن في إحسانه ونصحه، وارتدع الظالم عن معاودة الظلم والتعدي.
- إنه لا يجوز للحاكم استعمال من ينتهك حقوق الناس، أو على حد قول أبى يوسف: فحرام عليك استعماله والاستعانة به، وأن تقلده شيئاً من أمور رعيتك، أو تشركه في شيء من أمرك.
3- آثار احترام حقوق الإنسان: عموم الرخاء وزوال البلاء. قال قاضي قضاة هارون الرشيد: إن العدل وإنصاف المظلوم وتجنب الظلم مع ما في ذلك من الأجر يزيد به الخراج وتكثر به عمارة البلاد، والبركة مع العدل تكون، وقد تُفقد مع الجور، والخراج المأخوذ مع الجور تنقص البلاد به وتخرب، وتحدث القاضي أبو يوسف فى كتابة الذي كلفه به هارون الرشيد عن الرسل والسفراء.
- في الرسل والسفراء: يحكم دخول المبعوث الدبلوماسي دار الإسلام القواعد الآتية عند قاضي قضاة هارون الرشيد.
- أن أبا يوسف أكد على الحصانه الشخصية للمبعوث الدبلوماسي الذي تثبت صفته بأنه كذلك؛ إذ في هذه الحالة لا سبيل عليه ولا يُتعرض له. وقد أكد على حصانة أموال المبعوث الدبلوماسي بقوله إنه لا يُتعرض لما معه من المتاع والسلاح والرقيق و المال(1).
إنه يستثنى من حصانة أموال السفير ما يكون قد جلبه معه للتجارة؛ إذ في هذه الحالة يُؤخذ منه العشر.
عدم جواز رجوع الرسول إلى بلاده بعتاد أو سلاح مما يتقوى به أهل الحرب على المسلمين، فإن كان قد اشترى شيئاً من ذلك يُرد على الذي باعه ويُرد الثمن إلى الرسول.
لا يجوز أن يتم التعامل مع الرسول في أشياء يحرمها الله تعالى كالخمر أو الخنزير أو الربا؛ لأن حكمه حكم الإسلام وأهله.
- مراعاة الفرق بين الرسل والتجار من أهل الحرب الذين ترمي بهم الرياح على السواحل الإسلامية، الأولون يتمتعون بالحصانة الواجبة لهم لقوله صلى الله عليه وسلم لرسولي مسلمة: لو لا أن الرسل لا تُقتل لضربت أعناقكما، أما التجار فلا يتمتعون بذلك.
*معاملة غير المسلمين: أكد الإمام أبو يوسف على مسألتين هامتين هما:
الأولى: ضرورة الرفق بأهل الذمة: ويبدو ذلك واضحاً من قول أبي يوسف: وقد ينبغي لك يا أمير المؤمنين -أيدك الله- أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم والتقدم لهم حتى لا يُظلموا، ولا يُؤذوا، ولا يُكلفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ شيء من أموالهم إلاّ بحق يجب عليهم، فقد رُوي عن رسول الله (ص) أنه قال: "من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته أو أنتقصه أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه". وكان فيما تكلم به عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عند وفاته: أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يُكلفوا فوق طاقتهم.
الثانية: ضرورة الوفاء لأهل الصلح بما صولحوا عليه: انطلاقاً من جوهر الشريعة في مختلف مصادرها ومواردها. أكد أبو يوسف على ضرورة الوفاء لأهل الصلح، وعدم أخذ أي شيء زيد مما صولحوا عليه، يقول قاضي قضاة هارون الرشيد: وسألت يا أمير المؤمنين عن قوم من أهل الحرب أسلموا على أنفسهم وأرضهم ما الحكم في ذلك، فإن دماءهم حرام وما أسلموا عليه من أموالهم فلهم، وكذلك أرضهم لهم، وهي أرض عشر بمنزلة المدينة؛ إذ أسلم أهلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت أرضهم أرض عشر، وكذلك كل بلاد أسلم عليها أهلها فهي لهم وما فيها، وأيما قوم من أهل الشرك صالحهم الإمام على أن ينزلوا على الحكم والقسم وأن يؤدوا الخراج فهم أهل ذمة، وأرضهم أرض خراج، ويُؤخذ منهم ما صولحوا عليه، ويوفى لهم ولا يُزاد عليهم.
* ضرورة اهتمام الراعي بالرعية:
نصح أبو يوسف هارون الرشيد في هذا الخصوص في عبارات بليغة ضرورة أن يجعل الرعية في بؤرة اهتمامه، وأن يرفع عنها أي حيف أو ظلم. يقول قاضي قضاة هارون الرشيد: يا أمير المؤمنين، إن الله له الجد قد قلدك أمراً عظيماً، ثوابه أعظم الثواب، وعقابه أشد العقاب، قلدك أمر هذه الأمة فأصبحت وأمسيت وأنت تبني لخلق كثير قد استرعاكهم الله، وائتمنك عليهم، وابتلاك بهم، و ولاك أمرهم، وليس يلبث البنيان إذا أُسس على غير تقوى أن يأتيه الله من القواعد فيهدمه على من بناه وأعان عليه. ويضيف أبو يوسف مخاطباً الرشيد: فلا تضيعن ما قلدك الله من أمر هذه الأمة والرعية فإن القوة في العمل بإذن الله ويقول: كل ما رأيت أن الله تعالى يصلح به أمر الرعية فافعله، ولا تؤخره فإني أرجو بذلك أعظم الأجر وأفضل الثواب، وقد أكد أبو يوسف على أمور هامة بخصوص الراعي والرعية وهي:
1 - ضرورة اهتمام الحاكم بأمور رعيته وإقدامه على أي أمر يعمل على إراحتها وسكينتها.
2 - ضرورة إحاطة الحاكم علماً بأخبار ولاته على رعيته، وعدم ستر أي خبر عنهم.
3 - التنكيل بكل ما يعتمد تزييف الحقيقة بخصوص العلاقة بين الولاة والرعية.
* نفقة إصـلاح الأنهار الدولية وإقامة منشآت عامة عليها تكون على الدولة الإسلامية:
فقد قرر أبو يوسف مبدأ هاماً فرق فيه ما بين أمرين:
الأول: أن يحتاج النهر الدولي، أو ما يسميه أبو يوسف الأنهار العظام إلى إصلاحات أو إقامة منشآت (كالمسنيات) أي السدود أو البشوق أي ما يخرقه الماء في جانب النهر أو البريدات أي مفاتيح الماء. وهذه تكون على بيت مال المسلمين.
الثاني: أن يتعلق ما يتم عمله في النهر الدولي بحقوق خاصة للأفراد وليست حقوقاً عامة، فهذه يتحملها الأفراد ولا تكون على بيت المال.
* العلاقات الاقتصادية الدولية عند أبي يوسف:
- الربـا فى دار العرب: يري أبو يوسف عدم جوز الربا ولو في دار العرب، وبذلك يكون طبق القاعدة الأصولية التي تقول: المسلم يلتزم أحكام الإسلام أينما كان.
- العشور التي تُؤخذ من أموال التجارة الدولية: يقول أبو يوسف: يُؤخذ من المسلمين ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر ومن أهل الحرب العشر من كل ما مر به على العاشر وكان للتجارة، وبلغ ذلك مائتي درهم فصاعداً أُخذ منه العشر، وإن كانت قيمة ذلك أقل من مائتي درهم لم يُؤخذ منه شيء. وكذلك إذا بلغت القيمة عشرين مثقالاً أخذ منها العشر، فإن كانت قيماً ذلك أقل لم يُؤخذ منها شيء، وإذا اختلف عليه بذلك مرات كل مرة لا يساوي مائتي درهم لم يُؤخذ منه شيء وإن أضاف بعض المرات إلى بعض وكانت قيمة ذلك تبلغ ألفاً فلا شيء فيه، ولا يُضاف بعض إلى بعض.
- أسرى الحرب: تطرق أبو يوسف إلى أمور ثلاثة بخصوص أسرى الحرب.
- مبدأ الإحسان إلى الأسير: يقول قاضي قضاة هارون الرشيد: والأسير من أسرى المشركين لا بد أن يُطعم ويُحسن إليه حتى يحكم فيه. وهذا مبدأ أكده قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً).
- مصير أسرى الحرب راجع للأمام وفقاً لما يراه الأصلح للمسلمين. قال قاضي قضاة هارون الرشيد: والأمر في الأسرى إلى الإمام فإن كان أصلح للإسلام وأهله عند قتل الأسرى قتل، وإن كان المفاداة بهم أصلح فادى بهم بعض أسارى المسلمين.
- عدم جواز أخذ أموال لرد أو تبادل جثت أو رفات قتلى الحروب. قال قاضي قضاة هارون الرشيد: ولو قتل المسلمون رجلاً من المشركين فأراد أهل الحرب أن يشتروا منهم فإن أبا حنيفة قال: لا بأس بذلك، ألا ترى أن أموالهم يحل للمسلمين أن يأخذوها بالغصب، فإذا طابت أنفسهم بها فهو أحل وأفضل؛ لأن دمهم ومالهم حلال على المسلمين، وأنا أكره ذلك، وأنهى عنه. ليس يجوز للمسلمين أن يبيعوا خمراً ولا خنزيراً ولا ميتة ولا دماً من أهـل الحرب، ولا من غير غيرهم مع ما رُوي لنا في ذلك عن عبد الله بن عباس قال حدثنا ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس: أن رجلاً من المشركين وقع في الخندق فأُعطي المسلمون بجيفته مالاً، فسألوا رسول الله عن ذلك فنهاهم. ورأي أبي يوسف أقرب إلى طبائع البشر، ولأنه أيضاً ما أخذت به اتفاقيات جنيف لعام 1949م الخاصة بقواعد القانون الدولي الإنساني واجبة التطبيق.
- وهكذا يمضي القاضي أبو يوسف في سرد الأحكام الخاصة لصلاح المجتمع والدولة والأمة في المعاملات والحدود والإدارة والقضاء مع قدرة فائقة على التوجيه والإيضاح، وإذا كان الرشيد هو الذي قدم الأسئلة للقاضي، وإذا كان القاضي هو الذي أجاب عن وثوق واطمئنان فقد اشترك الاثنان معاً في إرساء قواعد الحكم في اتجاهات المختلفة على أساس من هدي الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا قيل لقاضي القضاة! قد أحسنت في أداء فريضة العلم على وجهها الصحيح فإننا نقول للرشيد: قد أحسنت حين التبست عليك بعض الأحكام، فرجعت فيها إلى أولي الاختصاص فنتج من ذلك ما صار مفخرة المفاخر فى تاريخ الحكام، ولا أدري لماذا لا يذكر أصحاب النصوص الأدبية الخاصة بآثار العصر الإسلامي أمثال هذه الرسائل العظيمة وعشرات من أمثالها فتكون نبراساً هادياً للمتأملين ونمطاً أدبياً رفيعاً لمن يلتمسون الفكر الدقيق في علوم الإنسانية.
المصدر : الاسلام اليوم