الجمعة

1446-09-14

|

2025-3-14

إن التأمل في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفي حياة الأمم والشعوب تعطي العبد معرفة أصيلة بأثر سنن الله في الأنفس والكون والآفاق، وأوضح مكان لسنن الله وقوانينه كتاب الله تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). [النساء:26] وقد أرشدنا كتاب الله إلى تتبع آثار السنن في الأمكنة بالسعي والسير، وفي الأزمنة في التاريخ والسير. قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ). [آل عمران: 137-138]. وأرشدنا القرآن الكريم إلى معرفة السنن بالنظر والتفكر. قال تعالى: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ). [يونس:101- 102]. وللحكم بما أنزل الله آثار دنيوية وأخرى أخروية أما الآثار الدنيوية التي ظهرت في دولة عمر بن عبد العزيز فهي: 
1-الاستخلاف والتمكين: إذ نجد أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- مكن الله له في الأرض تمكيناً عظيماً بسبب حرصه على إقامة شرع الله تعالى في نفسه وأهله ومن حوله وقومه وأمته، وأخلص لله في مشروعه الإصلاحي الراشدي، فأيده الله -عز وجل-، وشد أزره فقد أخذ بشروط التمكين وعمل بها، فتحقق له وعد الله قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً). [النور: 55] وهذه سنة ربانية نافذة لا تتبدل في الشعوب والأمم التي تسعى جاهدة وجادة لإقامة شرع الله. 
2- الأمن والاستقرار: كانت الثورات في العهد الأموي على أشدها ضد النظام السائد، وخصوصاً من الخوارج إلاّ أن عمر بن عبد العزيز استطاع بالحوار والنقاش أن يقنع الكثير منهم، ولقد تميز عهده بالأمن والاستقرار بسبب عدله في الحكم ورفعه للمظالم واحترامه الكبير لكل شرائع المجتمع، وحرصه على تطبيق الشريعة في كافة شؤون الحياة قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ). [الأنعام: 28]. 
3- النصر والفتح المبين: إن عمر بن عبد العزيز حرص على نصرة دين الله بكل ما يملك، وتحققت سنة الله في نصرته لمن ينصره؛ لأن الله ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزته وقوته قال تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ). [الحج: 40 – 41]. 
4- العز والشرف: إن الشرف الكبير والعز العظيم الذي سُطّر في كتب التاريخ عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بسبب تمسكه بكتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، وإن من يعتز بالانتساب لكتاب الله الذي به تشرف الأمة، ويعلو ذكرها وضع رجله على الطريق الصحيح، وأصاب سنة الله الجارية في إعزاز وتشريف من يتمسك بكتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). [الإنسان: 10]. قال ابن عباس – رضي الله عنه – في تفسيره هذه الآية: فيه شرفكم؛ فهذه الأمة لا تستمد الشرف والعزة إلاّ من استمساكها بأحكام الإسلام. 
5- بركة العيش ورغد الحياة في عهده: قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ). [الأعراف:96]. سواء كانت مادية أو معنوية وفوجئ الناس أن بركة العيش ورغد الحياة قد عم جميع الناس، ومالية الدولة قويت، واطمأن الناس في كل رقعة من رقع الدولة الأموية الواسعة؛ حتى عز وجود من يستحق الزكاة ويقبلها. 
6- انتشار الفضائل وانزواء الرذائل: بين الشريعة وبين الخلق أوثق الرباط وأمتن العرى، كيف لا والرسالة الإسلامية في غاياتها العظمى تزكية الأخلاق وتربية الفضائل، قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ). [آل عمران: 164] فمعنى يزكيهم أي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر؛ لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به حال شركهم وجاهليتهم، ولقد اهتم عمر بن عبد العزيز بنشر الفضائل وحارب الرذائل، وتحركت معه مدرسة الوعظ والإرشاد والتزكية والتربية، والتي كان من روادها الحسن البصري وأيوب السختياني ومالك بن دينار وغيرهم، وقد حققت هذه المدرسة نتائج باهرة في نشر الفضائل وانزواء الرذائل، وقد حدث في عهد عمر بن عبد العزيز تجديد كبير في توجه الأمة والمجتمع الإسلامي والتطور في الأذواق والأخلاق والميول والرغبات في هذه المدة القصيرة؛ فقد حدث الطبري في تاريخه: كان الوليد صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه فإنما يسأل بعضهم بعضاً عن البناء والمصانع، فولي سليمان فكان صاحب نكات وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن الترويح والحواري، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وراء الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ ومتى ختمت؟ وما تصوم من الشهر؟ 
7- الهداية والتثبيت: جاء عن عمر بن عبد العزيز في خطابه الذي أرسله ليقرأ على الحجاج في موسم الحج، ولولا أن أشغلكم عن مناسككم لرسمت لكم أموراً من الحق أحياها الله لكم وأموراً من الباطل أماتها الله عنكم، وكان الله هو المتوحد بذلك؛ فلا تحمدوا غيره، فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري والسلام عليكم. ولا شك أن عمر بن عبد العزيز حرص على تحكيم شرع الله في دولته، وبذلك منحه الله نعمة عظيمة ألا وهي الهداية والتثبيت على الحق. إن الهداية والثبات على الأمر هبة يهبها الله لمن تمخض قلبه لأمره، وانقادت جوارحه لحكمه. 
8- دولة عمر بن عبد العزيز دليل على قدرة الشريعة الإسلامية لحل الأزمات والمشاكل: 
إن دولة عمر بن عبد العزيز حجة تاريخيه على من لا يزال يردد الكلمات والأصوات القائلة: إن الدولة التي تقوم على الأحكام الإسلامية والشريعة عرضة للمشاكل والأزمات وعرضة للانهيار في كل ساعة، وأنها ليست إلاّ حلماً من الأحلام. إن آثار تحكيم شرع الله في الشعوب التي نفذت أوامر الله ونواهيه ظاهرة بينه لدارس التاريخ، وإن تلك الآثار الطيبة لهي سنن من سنن الله الجارية والماضية، والتي لا تتبدل ولا تتغير. فأي قيادة مسلمة تسعى لهذا المطلب الجليل والعمل العظيم مخلصة له في قصدها، مستوعبة لسنن الله في الأرض فإنها تصل إليه، ولو بعد حين، وترى آثار ذلك التحكيم على أفرادها ومجتمعاتها ودولتها وحكامها. 
ومن أراد التوسع في الدولة الأموية فعليه بمراجعة كتبي عنها سواء "الدولة الأموية: عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار" أو "معاوية بن أبي سفيان" أو "عمر بن عبد العزيز".

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022