الأمويون زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
الحلقة: الثامنة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1442 ه/ سبتمبر 2020
عندما توفي الصديق عام 13 هـ بويع الفاروق بالخلافة، وسار على نهج صاحبيه في استعمال بني أمية والثقة بهم، فلم يعزل أحداً منهم من عمل، ولم يجد على أحد منهم مأخذاً، والكل يعرف صرامة عمر، وتحريه أمر ولاته وعماله وتقصيه أعمالهم وأخبارهم، ومحاسبتهم بكل دقة وحزم، فاستمرارهم في عهده يدل على أمانتهم وكفايتهم، فقد بقي يزيد بن أبي سفيان والياً على دمشق، كما زاد عمر في عمل معاوية بالشام.
1 ـ بدأ نجم معاوية في الظهور:
بدأ نجم معاوية رضي الله عنه في الظهور في ميدان العمل السياسي والإداري في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه؛ فقد ولاه فتح قيسارية سنة خمس عشرة للهجرة، وجاء في كتاب توليته له: أما بعد، فقد وليتك قيسارية فسِرْ إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ومولانا فنعم المولى ونعم النصير، كانت هذه المهمة الجسيمة اختباراً كبيراً من عمر لمعاوية في ميدان الواقع، فقد استطاع تجاوز هذا الاختبار بكل نجاح، فقد سار إلى قيسارية بجنوده الذين أعدهم له أخوه يزيد بن أبي سفيان ـ أحد ولاة الشام لعمر رضي الله عنه ـ وكانت تلك المدينة محصنة وبأس أهلها شديد، فحاصرها معاوية طويلاً وزاحف أهلها مرات عديدة، فلم ييئس معاوية، فصمم على فتحها، واجتهد في القتال حتى فتح الله على يديه، وكان فتحه كبيراً فقد قتل من أهلها ما يقرب من مئة ألف، وبعث بالفتح والأخماس إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
وقد أثبت معاوية ـ بعد توفيق الله ـ بهذا الفتح جدارته وحسن قيادته، فأكسبه ذلك ثقة الجميع، فأسند له أخوه يزيد ـ أمير دمشق ـ مهمة فتح سواحل الشام، وقد أبلى في ذلك بلاءً حسناً، فكان يقيم على الحصن اليومين والأيام اليسيرة فربما قوتل قتالاً شديداً، وربما رمى ففتحها، وكان المسلمون كلما فتحوا مدينة ظاهرة أو عند ساحل رتبوا فيها قدر ما يحتاج لها إليه من المسلمين؛ فإن حدث في شيء منها حدث من قبل العدو سربوا إليها الإمداد، ويرى الدكتور عبد الرحمن الشجاع أن مدن الشام تساقطت تحت ضربات المجاهدين الواحدة تلو الأخرى، لأن الروم كانوا من الهزيمة بمكان لا تجعلهم يفكرون في المقاومة فتساقطت مدن بيروت، وصيدا، ونابلس، واللد، وحلب، وأنطاكية، وكانت قيسارية آخر مدن الشام فتحاً على يد معاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك بعد القدس.
وكان عبادة بن الصامت على ميمنة جيش المسلمين في حصار قيسارية، فقام رضي الله عنه بوعظ جنده، ودعاهم إلى تفقد أنفسهم والحيطة من المعاصي، ثم قاد هجوماً قتل فيه كثيراً من الروم، لكنه لم يتمكن من تحقيق هدفه، فعاد إلى موقعه الذي انطلق منه، فحرّض أصحابه على القتال، وأبدى لهم استغرابه الشديد لعدم تحقيق أهداف ذلك الهجوم فقال: يا أهل الإسلام، إني كنت من أحدث النقباء سنّاً، وأبعدهم أجلاً، وقد قضى الله أن أبقاني حتى قاتلت هذا العدو معكم.. والذي نفسي بيده ما حملت قط في جماعة من المؤمنين على جماعة من المشركين، إلا خلَّوا لنا الساحة وأعطانا الله عليهم الظفر؛ فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم؟! ثم بين لهم ما يخشاه منهم، فقال: إني والله لخائف عليكم خصلتين: أن تكونوا قد غللتم، أو لم تناصحوا الله في حملتكم.
وحض أصحابه على طلب الشهادة بصدق، وأعلمهم أنه سيكون في مقدمتهم وأنه لن يعود إلى مكانه، إلا أن يفتح الله عليه أو يرزقه الشهادة، فلما التحم المسلمون والروم، ترجل عبادة عن جواده وأخذ يقاتل راجلاً، فلما رآه عمير بن سعد الأنصاري نادى المسلمين يعلمهم بما فعل أميرهم ويدعوهم إلى الاقتداء به، فقاتلوا الروم حتى هزموهم وأحجروهم في حصنهم. وبعد فتح قيسارية ونجاح معاوية في فتح سواحل دمشق ولاه عمر بن الخطاب ولاية الأردن وكان ذلك عام 17 هـ.
2 ـ ولايته على دمشق وبعلبك والبلقاء:
في سنة ثماني عشرة للهجرة توفي يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما في طاعون عمواس، فولى عمر معاوية عمل أخيه ـ دمشق وبعلبك والبلقاءـ، وقد كان لعمل عمر هذا أكبر الأثر على نفسية والد معاوية ووالدته، فحين عزّى عمر أبا سفيان في وفاة ابنه يزيد قال: يا أمير المؤمنين من وليت مكانه؟ قال: أخوه معاوية. قال: وصلت رحماً يا أمير المؤمنين. وكتب أبو سفيان لمعاوية ينصحه في بداية عمله هذا، فمما قال: يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا، فرفعهم سبقهم وقدمهم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، وقصر بنا تأخيرنا، فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعاً، وقد ولوك جسيماً من أمورهم فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد فنافس، فإن بلغته أورثته عقبك، وكذلك كتبت له والدته هند بنت عتبة تقول: والله يا بني إنه قل من تلد مثلك، وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت.
وكان بعض الناس ـ لا سيما شيوخهم ـ استغربوا تولية عمر رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه مع حداثة سنه ووجود من هو أكبر منه وأفضل، لذا سوغ عمر رضي الله عنه عمله هذا ـ حيث قالوا: ولى حدث السن ـ بقوله: تلومونني في ولايته، وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به».
3 ـ معاوية في موكب عظيم وإنكار عمر عليه:
كان عمر رضي الله عنه ـ وهو الخبير بمعادن الرجال ـ يدرك أكثر من غيره ما يتمتع به معاوية من صفات تؤهله للقيادة، فحين قدم عمر الشام وافاه معاوية بموكب عظيم أنكره عليه عمر فقال: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم. قال: مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك. قال: هو ما بلغك من ذلك. قال: ولم تفعل هذا؟ لقد هممت أن امرك بالمشي حافياً إلى بلاد الحجاز. قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن تظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت، فقال له عمر: ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقاً، إنه لرأي أريب، ولئن كان باطلاً إنه لخديعة أديب. قال: فمرني يا أمير المؤمنين، قال: لا امرك ولا أنهاك. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه، فقال عمر: لحسن مصادره وموارده جَشَّمناه ما جَشَّمناه، وفي رواية أن الرجل الذي قال لعمر: ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه؛ هو عبد الرحمن بن عوف، وكان مع عمر حين استقبلهما معاوية بهذا الموكب العظيم.
وهذا الجواب من معاوية ـ رضي الله عنه ـ يدل على خبرة سياسية عالية، ومعرفة واعية بأحوال الأمم، ودراية كاملة بسياسة الرعية والمحافظة على الوضع الأمني للدولة التي يحكمها، ومن أجل هذا رضي عمر سياسته على الرغم من أنها تخالف سياسة عمر في اهتمامه بأحوال رعيته وبحث شكاواهم، ولعل كلمة عمر ـ رضي الله عنه ـ: من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه؛ تدل على رضاه عن سياسة معاوية.
وكان عمر رضي الله عنه يتعهد معاوية بالتربية والوعظ والنصح، وأحياناً يشتد ويغلظ عليه، فعن أسلم مولى عمر رضي الله عنه قال: قدم علينا معاوية وهو أبيض أو أبضُّ الناس وأجملهم، فخرج إلى الحج مع عمر، فكان عمر ينظر إليه، فيعجب له، ثم يضع أُصبُعَه على متنه ثم يرفعها عن مثل الشِّراك، فيقول: بخ بـخ، نحن إذاً خير الناس، أن جُمع لنا خير الدنيا والآخرة، فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، سأحدثك، إنّا بأرض الحمّامات والريف، فقال عمر: سأحدثك ما بك إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصبحك حتى تضرب الشمس متنيك وذوو الحاجات وراء الباب. قال: فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حُلة فلبسها، فوجد عمر منها ريحاً كأنه ريح طيب، فقال: يعمد أحدكم فيخرج حاجّاً تَفِلاً، حتى إذا جاء أعظم بُلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما، فقال معاوية: إنما لبستهما لأدْخل فيهما على عشيرتي أو قومي، والله لقد بلغني أذاك هاهنا وبالشام، والله يعلم أني لقد عرفتُ الحياء فيه، ثم نزع معاوية ثوبيه، ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما.
وقال عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي، عن جَدِّه قال: دخل معاوية على عمر وعليه حُلَّةٌ خضراء فنظر إليها الصّحابة، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدِّرَّة، فجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول: يا أمير المؤمنين، الله الله فيَّ، فرجع عمر إلى مجلسه، فقال له القوم: لم ضربته يا أمير المؤمنين وما في قومِك مثله؟! فقال: والله ما رأيت إلا خيراً وما بلغني إلا خير، ولكنِّي رأيته ـ وأشار بيده ـ فأحببت أن أضع منه، وكان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب.
وكان معاوية رضي الله عنه في إمارته بالشام في أبهة الملك وزيه من العديد والعدة، وكان يرى أنه في ثغر تجاه العدو ويحتاج إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد وإظهار الملك والسلطان، وكان يرى أن الملك لما ذمه الشارع لم يذم منه الغلبة بالحق وقهر الكافة على الدين، ومراعاة المصالح، وإنما ذمه لما فيه التغلب بالباطل وتصريف الآدميين طوع الأغراض والشهوات، فلو كان الملك مخلصاً في غلبه للناس أنه لله، ولحملهم على عبادة الله وجهاد عدوه لم يكن ذلك مذموماً، وقد قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ ٣٥} [ص: 35] لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك.
وكانت أبهة معاوية في الملك لها أغراض ومقاصد شرعية، ولذلك سكت عمر رضي الله عنه، وذات يوم ذكر معاوية عند عمر فقال: دعوا فتى قريش وابن سيدها؛ إنه لمن يضحك في الغضب ولا يُنال منه إلا على الرِّضا، ومن لا يأخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه، ومهما يكن في هذه الرواية وغيرها من مبالغة ، فإن ثقة عمر في معاوية تظل فوق مستوى الشبهة والشك، فقد برهن معاوية لعمر عمق فهمه لضرورات السياسة وتغير البيئة والمجتمع، وأثر ذلك كله على التطوير السياسي لأدوات الحكم.
ومهما يكن من أمر فقد عظمت مكانة معاوية عند عمر رضي الله عنه، فولاه أهم أقاليم دولته، وزاد في ولايته، ولم يعزله، على كثرة من كان يعزل من عماله وأمرائه، وكان معجباً بذكائه وإدارته ولا يكتم ذلك الإعجاب حتى قال يوماً لجلسائه: تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية؟!.
4 ـ جهود معاوية رضي الله عنه على جبهة الشام:
لما تولى معاوية أمر الشام، وانطلق عمرو بن العاص لفتح مصر، أصبحت مهمة حماية الحدود الشامية للدولة الإسلامية والتوسع منها منوطة به، وتتلخص أهم إنجازاته العسكرية في أمرين هما: سن نظام الصوائف والشواتي، وتكوين أسطول بحري إسلامي لأول مرة في تاريخ الإسلام.
أ ـ سن نظام الصوائف والشواتي في عهد عمر:
أصيب الروم على يد جنود الإسلام بهزائم مريرة متتالية فقدوا على أثرها الشام ومصر، بكل ما تمثلانه من أهمية اقتصادية وسياسية وعسكرية، غير أنهم لم يسلموا بهذه الهزائم، بل استمرت هجماتهم على الشام من خلال الدروب الجبلية التي تفصلهم عن باقي أجزاء إمبراطورية الروم، مما جعل عمر بن الخطاب يقول في جولته بالشام سنة 16 هـ: والله لوددت أن الدرب جمرة بيننا وبينهم لنا ما دونه، وللروم ما وراءه، وفي رحلته هذه إلى الشام سمى عمر الصوائف والشواتي، وسد فروج الشام ومسالكها.
ومن المحتمل أن يكون هدف الروم من هجماتهم على المدن الإسلامية الحدودية منذ البداية ، هو اعتماد ذلك كتدبير وقائي لحماية بلاد الروم وردع المسلمين، لكن استجابة معاوية كانت فوق التحدي، فقد نقل المعركة إلى بلاد العدو، وابتعد بالحرب عن بلاد المسلمين، وكان لابد لمعاوية ـ من أجل تحقيق ذلك الهدف ـ من تطوير وسائط الدفاع، واعتبار العواصم والثغور مجرد قواعد متقدمة واجبها تلقي الصدمة والإنذار، مع استخدام هذه القواعد مركز انطلاق للهجمات المضادة، وقد قاد معاوية بنفسه بعض هذه الصوائف؛ منها صائفة سنة 22 هـ؛ حيث دخل بها بلاد الروم في عشرة آلاف، وصائفة 32 هـ، حيث أوغل حتى بلغ عمورية، ومعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبادة بن الصامت، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو ذر الغفاري، وشداد بن أوس.
ب ـ تكوين أسطول إسلامي في البحر:
ويعود الفضل إلى الله ثم إلى معاوية في هذه المرحلة المبكرة في فتح باب الجهاد في البحر الذي أصبح ضرورياً لحماية الشام ومصر ومواجهة النشاط المتزايد للأسطول البيزنطي، وغاراته المتكررة على سواحل الإقليمين، وإمداداته للثائرين بهما. وقد استطاعت عمليات الصوائف والشواتي أن تضع حداً للتهديدات البرية، لكن المدن الساحلية، بداية من أنطاكية ونهاية بالإسكندرية، بقيت تحت رحمة البحرية البيزنطية، وأدرك معاوية أيضاً أنه من المحال تطوير عمليات الفتوح في إفريقية ما لم يتم انتزاع السيطرة البحرية من البيزنطيين، ولم يبدأ معاوية في غزو البحر فعلياً إلا في عهد عثمان، وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الحلقة: الثامنة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1442 ه/ سبتمبر 2020
عندما توفي الصديق عام 13 هـ بويع الفاروق بالخلافة، وسار على نهج صاحبيه في استعمال بني أمية والثقة بهم، فلم يعزل أحداً منهم من عمل، ولم يجد على أحد منهم مأخذاً، والكل يعرف صرامة عمر، وتحريه أمر ولاته وعماله وتقصيه أعمالهم وأخبارهم، ومحاسبتهم بكل دقة وحزم، فاستمرارهم في عهده يدل على أمانتهم وكفايتهم، فقد بقي يزيد بن أبي سفيان والياً على دمشق، كما زاد عمر في عمل معاوية بالشام.
1 ـ بدأ نجم معاوية في الظهور:
بدأ نجم معاوية رضي الله عنه في الظهور في ميدان العمل السياسي والإداري في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه؛ فقد ولاه فتح قيسارية سنة خمس عشرة للهجرة، وجاء في كتاب توليته له: أما بعد، فقد وليتك قيسارية فسِرْ إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ومولانا فنعم المولى ونعم النصير، كانت هذه المهمة الجسيمة اختباراً كبيراً من عمر لمعاوية في ميدان الواقع، فقد استطاع تجاوز هذا الاختبار بكل نجاح، فقد سار إلى قيسارية بجنوده الذين أعدهم له أخوه يزيد بن أبي سفيان ـ أحد ولاة الشام لعمر رضي الله عنه ـ وكانت تلك المدينة محصنة وبأس أهلها شديد، فحاصرها معاوية طويلاً وزاحف أهلها مرات عديدة، فلم ييئس معاوية، فصمم على فتحها، واجتهد في القتال حتى فتح الله على يديه، وكان فتحه كبيراً فقد قتل من أهلها ما يقرب من مئة ألف، وبعث بالفتح والأخماس إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
وقد أثبت معاوية ـ بعد توفيق الله ـ بهذا الفتح جدارته وحسن قيادته، فأكسبه ذلك ثقة الجميع، فأسند له أخوه يزيد ـ أمير دمشق ـ مهمة فتح سواحل الشام، وقد أبلى في ذلك بلاءً حسناً، فكان يقيم على الحصن اليومين والأيام اليسيرة فربما قوتل قتالاً شديداً، وربما رمى ففتحها، وكان المسلمون كلما فتحوا مدينة ظاهرة أو عند ساحل رتبوا فيها قدر ما يحتاج لها إليه من المسلمين؛ فإن حدث في شيء منها حدث من قبل العدو سربوا إليها الإمداد، ويرى الدكتور عبد الرحمن الشجاع أن مدن الشام تساقطت تحت ضربات المجاهدين الواحدة تلو الأخرى، لأن الروم كانوا من الهزيمة بمكان لا تجعلهم يفكرون في المقاومة فتساقطت مدن بيروت، وصيدا، ونابلس، واللد، وحلب، وأنطاكية، وكانت قيسارية آخر مدن الشام فتحاً على يد معاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك بعد القدس.
وكان عبادة بن الصامت على ميمنة جيش المسلمين في حصار قيسارية، فقام رضي الله عنه بوعظ جنده، ودعاهم إلى تفقد أنفسهم والحيطة من المعاصي، ثم قاد هجوماً قتل فيه كثيراً من الروم، لكنه لم يتمكن من تحقيق هدفه، فعاد إلى موقعه الذي انطلق منه، فحرّض أصحابه على القتال، وأبدى لهم استغرابه الشديد لعدم تحقيق أهداف ذلك الهجوم فقال: يا أهل الإسلام، إني كنت من أحدث النقباء سنّاً، وأبعدهم أجلاً، وقد قضى الله أن أبقاني حتى قاتلت هذا العدو معكم.. والذي نفسي بيده ما حملت قط في جماعة من المؤمنين على جماعة من المشركين، إلا خلَّوا لنا الساحة وأعطانا الله عليهم الظفر؛ فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم؟! ثم بين لهم ما يخشاه منهم، فقال: إني والله لخائف عليكم خصلتين: أن تكونوا قد غللتم، أو لم تناصحوا الله في حملتكم.
وحض أصحابه على طلب الشهادة بصدق، وأعلمهم أنه سيكون في مقدمتهم وأنه لن يعود إلى مكانه، إلا أن يفتح الله عليه أو يرزقه الشهادة، فلما التحم المسلمون والروم، ترجل عبادة عن جواده وأخذ يقاتل راجلاً، فلما رآه عمير بن سعد الأنصاري نادى المسلمين يعلمهم بما فعل أميرهم ويدعوهم إلى الاقتداء به، فقاتلوا الروم حتى هزموهم وأحجروهم في حصنهم. وبعد فتح قيسارية ونجاح معاوية في فتح سواحل دمشق ولاه عمر بن الخطاب ولاية الأردن وكان ذلك عام 17 هـ.
2 ـ ولايته على دمشق وبعلبك والبلقاء:
في سنة ثماني عشرة للهجرة توفي يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما في طاعون عمواس، فولى عمر معاوية عمل أخيه ـ دمشق وبعلبك والبلقاءـ، وقد كان لعمل عمر هذا أكبر الأثر على نفسية والد معاوية ووالدته، فحين عزّى عمر أبا سفيان في وفاة ابنه يزيد قال: يا أمير المؤمنين من وليت مكانه؟ قال: أخوه معاوية. قال: وصلت رحماً يا أمير المؤمنين. وكتب أبو سفيان لمعاوية ينصحه في بداية عمله هذا، فمما قال: يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا، فرفعهم سبقهم وقدمهم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، وقصر بنا تأخيرنا، فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعاً، وقد ولوك جسيماً من أمورهم فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد فنافس، فإن بلغته أورثته عقبك، وكذلك كتبت له والدته هند بنت عتبة تقول: والله يا بني إنه قل من تلد مثلك، وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت.
وكان بعض الناس ـ لا سيما شيوخهم ـ استغربوا تولية عمر رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه مع حداثة سنه ووجود من هو أكبر منه وأفضل، لذا سوغ عمر رضي الله عنه عمله هذا ـ حيث قالوا: ولى حدث السن ـ بقوله: تلومونني في ولايته، وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به».
3 ـ معاوية في موكب عظيم وإنكار عمر عليه:
كان عمر رضي الله عنه ـ وهو الخبير بمعادن الرجال ـ يدرك أكثر من غيره ما يتمتع به معاوية من صفات تؤهله للقيادة، فحين قدم عمر الشام وافاه معاوية بموكب عظيم أنكره عليه عمر فقال: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم. قال: مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك. قال: هو ما بلغك من ذلك. قال: ولم تفعل هذا؟ لقد هممت أن امرك بالمشي حافياً إلى بلاد الحجاز. قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن تظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت، فقال له عمر: ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقاً، إنه لرأي أريب، ولئن كان باطلاً إنه لخديعة أديب. قال: فمرني يا أمير المؤمنين، قال: لا امرك ولا أنهاك. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه، فقال عمر: لحسن مصادره وموارده جَشَّمناه ما جَشَّمناه، وفي رواية أن الرجل الذي قال لعمر: ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه؛ هو عبد الرحمن بن عوف، وكان مع عمر حين استقبلهما معاوية بهذا الموكب العظيم.
وهذا الجواب من معاوية ـ رضي الله عنه ـ يدل على خبرة سياسية عالية، ومعرفة واعية بأحوال الأمم، ودراية كاملة بسياسة الرعية والمحافظة على الوضع الأمني للدولة التي يحكمها، ومن أجل هذا رضي عمر سياسته على الرغم من أنها تخالف سياسة عمر في اهتمامه بأحوال رعيته وبحث شكاواهم، ولعل كلمة عمر ـ رضي الله عنه ـ: من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه؛ تدل على رضاه عن سياسة معاوية.
وكان عمر رضي الله عنه يتعهد معاوية بالتربية والوعظ والنصح، وأحياناً يشتد ويغلظ عليه، فعن أسلم مولى عمر رضي الله عنه قال: قدم علينا معاوية وهو أبيض أو أبضُّ الناس وأجملهم، فخرج إلى الحج مع عمر، فكان عمر ينظر إليه، فيعجب له، ثم يضع أُصبُعَه على متنه ثم يرفعها عن مثل الشِّراك، فيقول: بخ بـخ، نحن إذاً خير الناس، أن جُمع لنا خير الدنيا والآخرة، فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، سأحدثك، إنّا بأرض الحمّامات والريف، فقال عمر: سأحدثك ما بك إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصبحك حتى تضرب الشمس متنيك وذوو الحاجات وراء الباب. قال: فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حُلة فلبسها، فوجد عمر منها ريحاً كأنه ريح طيب، فقال: يعمد أحدكم فيخرج حاجّاً تَفِلاً، حتى إذا جاء أعظم بُلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما، فقال معاوية: إنما لبستهما لأدْخل فيهما على عشيرتي أو قومي، والله لقد بلغني أذاك هاهنا وبالشام، والله يعلم أني لقد عرفتُ الحياء فيه، ثم نزع معاوية ثوبيه، ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما.
وقال عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي، عن جَدِّه قال: دخل معاوية على عمر وعليه حُلَّةٌ خضراء فنظر إليها الصّحابة، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدِّرَّة، فجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول: يا أمير المؤمنين، الله الله فيَّ، فرجع عمر إلى مجلسه، فقال له القوم: لم ضربته يا أمير المؤمنين وما في قومِك مثله؟! فقال: والله ما رأيت إلا خيراً وما بلغني إلا خير، ولكنِّي رأيته ـ وأشار بيده ـ فأحببت أن أضع منه، وكان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب.
وكان معاوية رضي الله عنه في إمارته بالشام في أبهة الملك وزيه من العديد والعدة، وكان يرى أنه في ثغر تجاه العدو ويحتاج إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد وإظهار الملك والسلطان، وكان يرى أن الملك لما ذمه الشارع لم يذم منه الغلبة بالحق وقهر الكافة على الدين، ومراعاة المصالح، وإنما ذمه لما فيه التغلب بالباطل وتصريف الآدميين طوع الأغراض والشهوات، فلو كان الملك مخلصاً في غلبه للناس أنه لله، ولحملهم على عبادة الله وجهاد عدوه لم يكن ذلك مذموماً، وقد قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ ٣٥} [ص: 35] لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك.
وكانت أبهة معاوية في الملك لها أغراض ومقاصد شرعية، ولذلك سكت عمر رضي الله عنه، وذات يوم ذكر معاوية عند عمر فقال: دعوا فتى قريش وابن سيدها؛ إنه لمن يضحك في الغضب ولا يُنال منه إلا على الرِّضا، ومن لا يأخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه، ومهما يكن في هذه الرواية وغيرها من مبالغة ، فإن ثقة عمر في معاوية تظل فوق مستوى الشبهة والشك، فقد برهن معاوية لعمر عمق فهمه لضرورات السياسة وتغير البيئة والمجتمع، وأثر ذلك كله على التطوير السياسي لأدوات الحكم.
ومهما يكن من أمر فقد عظمت مكانة معاوية عند عمر رضي الله عنه، فولاه أهم أقاليم دولته، وزاد في ولايته، ولم يعزله، على كثرة من كان يعزل من عماله وأمرائه، وكان معجباً بذكائه وإدارته ولا يكتم ذلك الإعجاب حتى قال يوماً لجلسائه: تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية؟!.
4 ـ جهود معاوية رضي الله عنه على جبهة الشام:
لما تولى معاوية أمر الشام، وانطلق عمرو بن العاص لفتح مصر، أصبحت مهمة حماية الحدود الشامية للدولة الإسلامية والتوسع منها منوطة به، وتتلخص أهم إنجازاته العسكرية في أمرين هما: سن نظام الصوائف والشواتي، وتكوين أسطول بحري إسلامي لأول مرة في تاريخ الإسلام.
أ ـ سن نظام الصوائف والشواتي في عهد عمر:
أصيب الروم على يد جنود الإسلام بهزائم مريرة متتالية فقدوا على أثرها الشام ومصر، بكل ما تمثلانه من أهمية اقتصادية وسياسية وعسكرية، غير أنهم لم يسلموا بهذه الهزائم، بل استمرت هجماتهم على الشام من خلال الدروب الجبلية التي تفصلهم عن باقي أجزاء إمبراطورية الروم، مما جعل عمر بن الخطاب يقول في جولته بالشام سنة 16 هـ: والله لوددت أن الدرب جمرة بيننا وبينهم لنا ما دونه، وللروم ما وراءه، وفي رحلته هذه إلى الشام سمى عمر الصوائف والشواتي، وسد فروج الشام ومسالكها.
ومن المحتمل أن يكون هدف الروم من هجماتهم على المدن الإسلامية الحدودية منذ البداية ، هو اعتماد ذلك كتدبير وقائي لحماية بلاد الروم وردع المسلمين، لكن استجابة معاوية كانت فوق التحدي، فقد نقل المعركة إلى بلاد العدو، وابتعد بالحرب عن بلاد المسلمين، وكان لابد لمعاوية ـ من أجل تحقيق ذلك الهدف ـ من تطوير وسائط الدفاع، واعتبار العواصم والثغور مجرد قواعد متقدمة واجبها تلقي الصدمة والإنذار، مع استخدام هذه القواعد مركز انطلاق للهجمات المضادة، وقد قاد معاوية بنفسه بعض هذه الصوائف؛ منها صائفة سنة 22 هـ؛ حيث دخل بها بلاد الروم في عشرة آلاف، وصائفة 32 هـ، حيث أوغل حتى بلغ عمورية، ومعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبادة بن الصامت، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو ذر الغفاري، وشداد بن أوس.
ب ـ تكوين أسطول إسلامي في البحر:
ويعود الفضل إلى الله ثم إلى معاوية في هذه المرحلة المبكرة في فتح باب الجهاد في البحر الذي أصبح ضرورياً لحماية الشام ومصر ومواجهة النشاط المتزايد للأسطول البيزنطي، وغاراته المتكررة على سواحل الإقليمين، وإمداداته للثائرين بهما. وقد استطاعت عمليات الصوائف والشواتي أن تضع حداً للتهديدات البرية، لكن المدن الساحلية، بداية من أنطاكية ونهاية بالإسكندرية، بقيت تحت رحمة البحرية البيزنطية، وأدرك معاوية أيضاً أنه من المحال تطوير عمليات الفتوح في إفريقية ما لم يتم انتزاع السيطرة البحرية من البيزنطيين، ولم يبدأ معاوية في غزو البحر فعلياً إلا في عهد عثمان، وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf